منتدى التّجلي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى للإِبداع الفكري و الأدبي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» سيرة ذاتية للكاتب / طارق فايز العجاوى
رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ Emptyالسبت مارس 31, 2012 6:19 am من طرف طارق فايز العجاوى

» معلقة زهير بن أبي سلمى
رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ Emptyالأحد ديسمبر 18, 2011 6:28 am من طرف علي شموط

» معلقة زهير بن أبي سلمى
رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ Emptyالأحد ديسمبر 18, 2011 6:26 am من طرف علي شموط

» الأضحية وأحكامها
رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ Emptyالثلاثاء ديسمبر 13, 2011 6:37 am من طرف علي شموط

» أمي كذبت علي ثمان مرات
رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ Emptyالثلاثاء ديسمبر 13, 2011 6:33 am من طرف علي شموط

» برنامج الكرة بملعبك الأكثر شعبية
رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ Emptyالثلاثاء يناير 11, 2011 11:58 pm من طرف ابن البحر

» عصام الشوّالي، أشهر المعلقين الرياضيين العرب
رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ Emptyالثلاثاء يناير 11, 2011 11:13 pm من طرف organizer

» حقوق الانسان في ظل الاسلام
رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ Emptyالثلاثاء يناير 11, 2011 11:07 pm من طرف organizer

» تأبين الرّواية العربيّة في مؤتمرها- نقلاً عن صحيفة: أخبار الأدب
رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ Emptyالثلاثاء يناير 11, 2011 4:13 pm من طرف Admin

ازرار التصفُّح
 البوابة
 الصفحة الرئيسية
 قائمة الاعضاء
 البيانات الشخصية
 س .و .ج
 ابحـث
منتدى
التبادل الاعلاني
احداث منتدى مجاني

 

 رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



عدد المساهمات : 123
تاريخ التسجيل : 06/12/2009

رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ Empty
مُساهمةموضوع: رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ   رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ Emptyالأربعاء يناير 05, 2011 4:46 pm

خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ


رِوَايـَـة




نَصِيْف فَلَك






الى.. صديقي ثائر علي جواد الذي لا يزال يعزف بين جدران قلبي برغم الرصاص الذي سافر به دون عودة.







هل ترون هذا المنفلت من زمانه ومكانه، وهو يشد (قيطان) حذائه في ساحة الميدان، يتلفت مثل ابطال الافلام الاسطوريين الذين ينقذون العالم في آخر لحظة، ويتطلع حوله والى السماء متخيلاً مئات الكاميرات تلهث وراءه وهي تصوره لحظة بلحظة. هل ترون كيف يضمُّ قبضته بشدة على مصيره لئلا يزوغ الى يد غيره، حتى نبتت اظافره في راحة يده. لكن مصيره الزئبقي راح ينسل من يده المدماة، وهو يحكم ازرار قميصه السمائي على حلمه الذي يخرّ من ميازيب جسده. إنه الطيف الباهت والصورة المتوارية لأحلام لم يعد لها صاحب، مجهولة المالك.
وها اني اسحل جثة سرّك في الفراغ القاحل الموحش، واترك صوتك المخنوق ينطلق، ليتحرر اخيراًَ من هذه البلاد الجحود. وسوء نوايانا، ومني.. من ذاكرتي، فهل اودعك يا خضر قد؟
كريم كشكول، بغداد [مدينة الحسينية] خريف 1991






الفصل الأول
ـ 1 ـ
مرت بسلام أيام (طباخات الرطب) وانقشع آب اللهاب الذي أحال بغداد الى فرن يشوينا كما الصمون أو مثل خبز باب الأغا: حار ومكسب ورخيص. وانا افتح نوافذ جسدي لريح ودودة قد تحمل بين طياتها وعود مطر حيث قررت اخيراً الذهاب الى مبنى الاذاعة والتلفزيون. تعلو ملامحي تقطيبة (مارلون براندو) في فلم ( التانكو الاخير في باريس) ، كنت بعمر النبي يوسف حين تحارشت به زليخة(هيت لك)، تبدو على ملامحي إمارات جدّ وصرامة مخيفة أو هكذا تخيلتُ نفسي. فتشني الحرس من حذائي حتى قبعتي التي وجدتها بين كواليس أحدى المسرحيات، فلبستها واثارت إعجاب اصدقائي، لم يخطر في بالي أنها ستأكل وتشرب معي طوال حياتي، أغوتني هذي القبعة الايطالية بسحر ومفعول طاقية الإخفاء. دخلت مباشرة نحو موظف الاستعلامات، همست له:
ـ عندي سرّ خطير... لا أبوح به إلا للمدير العام.
حولوني من موظف الى آخر، وكل واحد منهم يبدي اهتمامه، يتحايل عليَّ لكشف السر دون فائدة ترجى مني، بقيت مصراً وحرنتُ مثل صديقي الحمار حتى دخلت الى غرفة المدير العام. طبعاً كل الذين مررت بهم خمنوا نوع سري ولونه: أما يتعلق بأمر خطير يستهدف أمن الدولة أو كشف قضية تتعلق بهجوم على مبنى الاذاعة والتلفزيون. أجلسني المدير قربه الى جهة اليسار. قال:
ـ تكلم... ما هو سرّك الخطير هذا؟
نهضتُ ودنوتُ من وجهه وقلت:
ـ انا ممثل بارع... لا تحرموا التلفزيون مني.
ضحك، نزع نظارته وهو يضحك، يتطاير من ضحكته شرر، ضيّع عليَّ هندسة الغرفة وآثاثها وكنت لحظتها طفلاً تائهاً نسى حتى إسمه. دخل شخصان وزفوني خارج مبنى الاذاعة والتلفزيون بالشتائم والدفع والبصاق مع جملة تكرر، كانت هي اللازمة لأغنية الطرد:
(قشمر... هذا هو سرك ) تناوشت الشارع وعبرت جسر الصالحية الى شارع الرشيد ثم النهضة ومنها ركبت سيارة لمدينتي الغبارية. نزلتُ امام مستشفى الچوادر، أترنح سكراناً بفكرة: ان ما حدث غير حقيقي، إنه لقطة فلم رأيته في واحد من سلسلة أوهام حياتي، صحيح أنا ذهبت لمبنى الاذاعة والتلفزيون، لكنه مجرد تمثيل في تمثيل، صحيح أنا المشتوم والمدفوع والمبصوق عليه، وبذات الوقت ليس هذا أنا بل شخص قريب مني جداً، توهم كونه أنا وفعل فعلته ومضى. لذلك فأن ما حدث لا يمت بصلة اليَّ. وبقيت الحادثة مربوطة بين الوهم وبين الواقع. ما جرى ليس خارج منطقة وعيي ولا علاقة له بمرض الفصام العقلي أو أي نوع من الجنون، والدليل على صحتي العقلية والنفسية: مزاولتي الكتابة والمذكرات، انا أثبتُ لنفسي عدم جنوني بمواصلة الكتابة، رغم انها دليل لا يعلم به احد ولا يعرف مكان أوراقي ودفاتري أي مخلوق، إذ صنعت منضدة طويلة (ميز) يشبه التابوت، جعلته على مقاسي بالضبط، لا زايد ولا ناقص، صممته كأي نجار محترف بطبقتين خفيتين من الخشب المتين يصعب تمييزها، أحشرُ ما بينهما كل أوراقي ودفاتري التي دونتها خلال سنين طويلة. لا أعبأ بقيمتها الفنية، أو أنها جديرة بكل هذا الحرص أم لا، إنما هي كنزي الشخصي ومبرر وجودي. هنا تنطُّ مفارقة عفريتية تنحش في صدري ولا سبيل الى كتمها أو طمرها: كيف تفرط بحياتك وتستهتر بمصيرك بينما تحرص أشد الحرص على دفاترك وأوراقك؟ وأعترف بكل فخر وإعتزاز، أن هذا هو ما يحدث فعلا ولا أمتلك أي تفسير.
في بدايات الحرب الاهلية اللبنانية، كتبت رسالة الى مديرية الامن العامة، في سطورها أدين نفسي وأقول:
ـ إنني ضد الحزب والسلطة، وأشكل تهديداً خفياً ستظهر علاماته في الأيام القادمة. وقعت وكتبت اسمي الرباعي وعنواني، وألقيتها في صندوق البريد. ربما سيقولون هذا واحد مجنون، أو ان شخصاً غيره كتب الرسالة بإسمه، كومة إحتمالات تتراكم فوق هذه الرسالة، وأكثرها معقولية: انهم أهملوا الرسالة. ثم دفنت مع الكثير من الحوادث في ذاكرتي لأن مصائب وكوارث تراكمت فوقها ومحتها، ولم أتذكرها إلا عندما سقطت سهواً جملة من سياق حديث طويل مع (أوميد) أحد أصدقائي الممثلين الذي أشترك في مسرحيتي (الطاعون يعسكر في المدينة) التي عرضتها في ألعن فترة وأسخف رعونة من حضرة جنابي الكسيف. كنا بعد التمارين (البروفات) نجلس في الحديقة الكبيرة جنب مستشفى الچوادر نتناقش ونتحاور عن كل شيء وأي شيء، حين طفرت من لسان (أوميد) تلك الجملة مثل ضفدعة سامة. تلقفت الجملة: إنه يتمرن يومياً – بروفه من نوع آخر – بالجلوس على (بطل ببسيي كولا) حتى لا تتمزق مؤخرته ويتعذب طويلاً إذا ما وقع في أيدي رجال الامن. وتذكرت الرسالة مرة ثانية عندما سقطت أنا بين أيديهم وشهد جسدي فنون التعذيب، ضحكت بعدها بمرارة من سذاجتي وقلة خبرتي ومن هذا الجنوح في تهوري، أرددُ المثل الجائر: يردس حيل الما ضايكهه....
ولكن لا فائدة مني حيث لا نفعتني التجارب ولا حصنتني الخبرات. كنت دائماً وابداً أنسى نفسي وأعودُ الى التهور والطيش كأني أعيش بلا ماضٍ ولا تجارب ولا عبر. في كل صباح احتفل بالحياة مع العصافير والأطفال، بريء، ممحو من قذارات الأمس، ما حدث ويحدث كله تمثيل في تمثيل، حالما ينتهي دوري أعود لنفسي من جديد، وابدأ فلماً آخر أو حلماً جديداً أو وهماً له طعم الحياة. مشكلتي تتلخص: بان الواقع غسل يديه مني، عجز عن إرغامي على تصديقه وإيقاعي في أسره والرضوخ لشروطه. حيث دائماً هناك مسافة من الغموض الفني والحلمي ما بيني وبين ما يقع فعلاً. لا يمكنني التصديق بالكامل ولا النفي القاطع. مشكلتي أم رأسين لا علاقة لها بالشجاعة ولا بنجومية خالف تعرف، فحين عرضت مسرحيتي على قاعة ثانوية المصطفى، اندهش الجمهور خائفاً من جرأتها وخطورتها ولامني الاصدقاء على وقاحتها بذلك التطابق المكهرب مع الذي يحدث في البلد بوضوح ساخر متهكم واسمها المفضوح: الطاعون يعسكر في المدينة، يعني (كابله وبزه بعينه)، وهي قصة ملك يعدم أي حلاق يقصُّ له شعره، فلم يبقَ في المملكة سوى الحلاق الاخير، يتخذه الملك حلاقه الخاص لا يغادر القصر بتاتاً بعد ان يكتشف سرّ إعدام جميع الحلاقين: للملك أذنين كأذني الماعز. كيف يبقى الحلاق حبيس القصر وسرّ الملك يحوص في قلبه، إستأذن من الملك للتنزه في حقل القصر، وراح الحلاق ينبش أرض الحقل ويبوح بالسرّ للأرض. راحت أيام وجاءت أيام ونما قصب كثيف في الحقل، جلبوا راعياً لقص أعواد القصب والتخلص منها. صنع الراعي من القصب نايات راح يبيعها للناس. كل من ينفخ في الناي يخرج لحن السرّ: للملك أُذنين كأُذني الماعز. إنتشر السرّ بليلة وضحاها في عموم المملكة وجيء بالحلاق مخفوراً أمام الملك واعترف: لم افشِ السر لأي انسان ولكني بحتُ به للأرض، فما أدراني ان الارض ضدك. أعُدمَِ الحلاقُ وطلع وزير الاعلام الملكي وأعلن للشعب: اننا فخورون أن للملك أذنين كأذني الماعز وعلى كل مواطن ان تكون له اذنا ماعز. وتنتهي المسرحية بهتاف شعبي: معع ميع ميع.. لكن المصيبة الرعناء تزامن عرضها مع حملة اعتقالات واعدامات طالت الشيوعيين والشيعة والاكراد، وطبعاً هؤلاء ليسوا حلاقين ولكنهم اكتشفوا أُذني الماعز في رأس حزب البعث الذي يناضل من اجل إنبعاث الأمة من سلالة التيس. بينما أُحّلق انا فوق الواقع وشباب قطاعنا(33) يختفون واحداً تلو الاخر، وانا بمنأى عن الخطر، خارج حملة الصيد، محصن ضد الاختفاء واعتقالات رجال الأمن كمن يحمل حرز (عرج السواحل) أو خرزة (النجاة)، رأيتُ بعض الرجال يشّدها على زنده بسير جلدي. كيف أكونُ خارج دائرة الخطر وأنا بلا(عرج السواحل) وبلا خرزة(النجاة). بعض الذين اختفوا كان زميل دراسة ومن الجيران، اسماؤهم ووجوههم تتبارق في ليل ذاكرتي مثل شظايا زمرد. فهل أفلتُ هذه المرة بادعائي الجنون، ربما سينطلي عليهم قناع الجنون رغم شكوكهم، فقد خضعتُ للمراقبة والتحقق من تماسك صلابة جنوني.
وكان آخر تحقيق معي في شعبة الثورة لحزب البعث، استجوبني فيه (رفيق) من قطاعنا اسمه (موحان)، وجهَ لي بعض التُهم فأجبته بحوار من مسرحية (أبو الطيب المتنبي): أن تتقدم للوراء أو تتراجع للأمام، ان تصعد للأسفل أو تنزل للأعلى، فجميعها خطوة واحدة.
تركوني رهن الرصد والتحري وأحالوا ملفي الى الجهات الأمنية. وأنا نصفي في ظل الحلم ونصفي الآخر تحت شمس الواقع. أنام على سرير الوهم ومُغطى بلحاف الحقيقة. القضية كلها تمثيل في تمثيل، وهناك دائماً المخرج اللامرئي الذي يتدخل في اللحظات الاخيرة، لكن متى ينتهي هذا الدور المرعب؟
رأيتُ وأنا اقتربُ من البوابة الجانبية لمستشفى الچوادر كوم نساء ملفعات بالعباءات السود، يتسربُ منهن نواح مكتوم جائر، وبين لحظة واخرى ينخرطن بجهشات مخنوقة. كما لاحظتُ بعض رجال قربهن يلفون وجوههم بيشماغات جنوبية كعادتهم حين تحل بهم مصيبة. أدركتُ على الفور انهم أهل وأقرباء ميت في المستشفى، بانتظار إستلامه من ثلاجات الجثث مع شهادة الوفاة. منظرهم يوحي بان الميت كومبارس، ميت مجهول ومنسي لا يحفل بفقدانه أحد سوى أهله وأقربائه. طبعاً لم أعرف سبب وفاته: بمرض، حادث سير، معتقل أطلق سراحه قبل أيام وودعه رجال الامن بالاعتذارات مع قدح شربت يحوي مادة (الثاليوم) بمناسبة خروجه، أم مات بسكتة قلبية، أو تبادل أطلاق نار حول ثأر عشائري قديم.
لا أعرف، هو ميت مغمور كما يبدو من مشهدهم، ميت يحمل بصمة كل الموتى المجهولين، الذين كان موتهم غير ملفت مثل حياتهم بالضبط، حياة نملة بهدوئها وصمتها وعدم الاكتراث لها، حياة تدبُّ بلا ضجيج لذلك موتهم هو الاخر بلا ضجيج، دفنوا وتلقفتهم الارض بسكون خلاب. حين يموت هؤلاء أشعر بخجل من وجودي ولكوني ما زلت حيّاً، أستحي من جسدي النابض بالعافية وأشعر باني مسؤول عن موتهم المنسي هذا ولي ضلع وذنب في موت كهذا، اني متواطئ مع الموت بشكل أو بآخر، لأن نبرة الحزن الخافتة هذه تقتل قلبي، رغم انه حزن غير استعراضي ولا حزن منافق، إلا إنه حزن منقوص: الميت مكشوف الجسد ممدداً فوق حصير فقير وحوله كتل سوداء تريده ان ينهض، ان يعود مثلما كان فقد تنقذهم الدموع المتوسلة لكي يغير ملك الموت رأيه ويعيده للحياة، لكن اليأس المفجوع يتراكم شيئاً فشيئاً، خاصة ان الميت غير عابئ وغير مبال بجسده، ولا يهمه ما يجري حوله.
إقتربت من أهل الميت واخذت زاوية معتمة بين أحد أركان باب المستشفى، وانخرطت ببكاء مكتوم، أهتزُ بنشيج كامد يُرى أكثر مما يُسمع حتى سمعت من يخاطبني، رفعت رأسي فرأيت ممرضاً يرتدي صدرية بيضاء يقول:
ـ أنت أخو المتوفى؟
تلعثمت، (شوف حظي الاسود)، ترك جميع أهل الميت وانحدر اليَّ مباشرة. أحنيت رأسي مرتبكاً لا أعرف ماذا أردّ عليه، تخيلته مبحلقاً بوجهي مذهولاً وأنا أنسل بهدوء ورأسي غطس بين كتفي أذوب في الظلام، أمسح وجهي من بلل الدموع، أدبُّ مثل نملة باتجاه البيت. ماذا أقول للممرض ، ماذا اردّ عليه: لا... لا... أعرفه.

سچين وملح

طلع الرفيق موحان في منطقة قطاع (33) مثلما يطلع الفطر السام، طلع في 7 نيسان يرتدي أبهى ملابسه: بنطلون أخضر مع قميص مربعات لونه رملي وجوزي، يحمل بيده اليمنى دفتراً متسخاً مع كراريس، ويحمل وجهاً بشوشاً كأنه يعرف الجميع منذ زمن بعيد والجميع يعرفونه ، بينما لم يلحظه أو ينتبه الى شخصيته أحد. ربما أدخر وجوده وخبأه ليطلع على الناس في هذه الايام، بدا سلساً ناعم المعشر عكس أخيه (فرحان) الشبح، الذي كان معروفاً بدقة ذهابه وأيابه اثناء دوامه في وزارة الصحة بصفة معاون طبيب. (فرحان) الشبح لا يمشي بل يسيلُ على الارض مسكوباً، يدبُّ مثل دودة كبيرة تلبس عوينات سميكة(چعب إستكان) لا يسلم على أحد ولا يسلم عليه أحد، لكنه حين يمرُّ تتحرك أوراق شجيرات الخروع والسيسبان وزهرة الشمس، وتتمايل أعواد القصب والبردي في الحدائق الكبيرة المنتشرة أمام البيوت، حين يمر يخرس الدجاج وينكمش البطّ خانساً، وتنسل الكلاب الى اقرب ملاذ تضع ذيولها بين ساقيها. فرحان الشبح يمرُّ مثل النسيم المخيف في أفلام الرعب.
ـ سچين وملح... سچين وملح... سچين وملح.
إستغربَ الناس من صيحات الأطفال(سچين وملح) هذه، فالوقت ليس وقت غروب ولا ليل، كذلك عدم وجود طائر (الططيوي) في الجو ولم يسمعوا زعيقه المشؤوم، الذي يتطير منه معظم الناس، إذ لا بد من حدوث مصيبة في البيت الذي يزعق فوقه طائر (الططيوي). تكررت صيحات الاطفال (سچين وملح) حين مرّ الرفيق موحان بملابس العيد من أمامهم. هذه الكلمة السحرية تبطل مفعول المصيبة المخبوءة في زعيق الططوة كما هو شائع في المدينة الغبارية، تلك المدينة التي إنبثقت بعكس جميع مدن العالم، إذ بدأت بظهور خرائب وأطلال من الطوف، كأنها مدينة أثرية مطمورة، إنزاحَ عنها التراب والغبار وبانت بعض معالمها المدفونة:
هنا كوخ طيني نبع حوله أطفال نصف عراة يلعبون (الغميضة)، وهناك طلع بيت طيني مسوّر بالتنك والسعف والقصب، يعجُّ بالثغاء والرغاء والنهيق، يخفق حوله البط ودجاج يتقافز من تحت اقدام رجال بدشاديش ويشماغ سومري يشبه شباك الصيد، يجلسون عصراً أمام الباب ودلة القهوة مثل راقصة وسط الجمر، يشربون الفنجان تلو الفنجان ويدخنون سجائر لف.
وبين سنة وضحاها تكشفت أكبر مدينة أثرية فوق سطح الارض، انقسمت عمودياً الى (الچوادر) و (الداخل) والى قطاعات بعدد خرز المسبحة السوداء، وسرعان ما إمتدت وتضخمت حبورة بنشوة الوجود الحي، ولولا قناة الجيش من أمامها والسدة الترابية من خلفها لاجتاحت بغداد بكرخها ورصافتها، ولكن طائر الططيوي يزعق فوقها دائماً.
يقول كشكول صاحب أقدم دكان في المدينة:
ـ گاع الثورة عطشانه للزرع... والعباس اذا تفلت وانت ماشي رأساً تخضر وراك نخلة.
ولأنها بلا مجاري تحت الارض فقد تكاثف القصب والبردي والخروع والسيسبان وزهور الشمس أمام البيوت، إندلعت الحدائق من الماء المستعمل الخارج من البيوت.
في صباح اليوم التالي (Cool نيسان، إختفى ثلاثة شباب من منطقة دكان كشكول في قطاع (33). يقول جيرانهم:
سمعنا زعيق الططوة فوق بيوت هولاء الشباب ولم نسمع صيحات (سچين وملح).



ـ 2 ـ
(سلاّمه) غبشت تزور الامام الكاظم بعد إن حاصرت أُمها من جميع الجهات وأجبرتها على الإستسلام للزيارة، إذ بكت بدموع يخرُّ لها الشياطين ساجدين:
ـ يمه... يمه عندي حاجة ومرادها عند قاضي الحاجات ابو الجوادين.
وتطشر اخوتي هائمين يبحثون في المستشفيات ومراكز الشرطة: (مكي) توجه للحارثية حيث جملونات الموقوفين من قبل الانضباط العسكري. (زيدون) خفَّ قدميه صوب مركز شرطة الثورة ومركز شرطة التهذيب، ثم انسل يبحث في السينمات التي يعرفها كما يعرف راحة يده لعل إحدى الشاشات إبتلعتني بفلم طيرّ عقلي ورماني بعيداً خارج نفسي. و (عبودي) هبَّ الى صديقٍ له عم يعرف أحد أقارب زوجته الذي له جار أخوه مفوض بالأمن. و(محمود) ذهب الى القرآن وخرج متفائلاً بعد الاستخارة:
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
بينما غبشت أمي الى كربلاء لتحتضن شباك ضريح الامام الحسين وتنوح:
ـ أريد (خضر) منك يا مظلوم كربلاء.
ثم تتجهُ صوب الامام العباس وتتشبث بمرقده:
ـ ها... أخو زينب ها.. ها يا قمر بني هاشم ها... أريد (خضر) منك ومن اخوك سيد شباب أهل الجنة.
يبدو أنني لستُ الوحيد المنفلت من سطوة براثن الواقع، فسلاّمه غير متدينة وتحفظ أغاني عبد الحليم حافظ وأغاني فيروز أكثر مما تحفظ آيات من القرآن وترتدي زياً هندياً بلا حجاب، لها شعر أسود لامع، طويل... طويل حتى ضياعي في متاهة عطرها، ذلك العطر الفاغم حولي طارداً كلَّ روائح الواقع: رائحة البعث ورفيق موحان، رائحة الفقر وإفلاسي المزمن، رائحة مجاري شوارعنا المكشوفة، رائحة الفن العفن وراء كواليس السياسة، رائحة الدسم البشري في المعتقلات وغرف التحقيق، رائحة الكذب والنفاق وهي تعطُّ من آباط المتنفذين. عطرُ سلاّمه إكتسحَ كل هذه العفونات واستحوذ على خشمي وعقلي، عطر فريد يشبه شخصها وجمالها وروحها، عطر يفيضُ عليَّ كلما أراها وأدنو منها فلا أشمُّ سوى زهرة حلمي، عطرُ يقتحم أبواب وشبابيك جسدي ولا يترك مسامة فيَّ إلاّ وأسكرها باريجه السحري.
حضور (سلاّمه) يشق فولاذ الواقع ونضيع في ازقة بغداد أيام كهرمانة والاربعين حرامي، تهبط علينا ألوان أقمشة من مقصورات الشناشيل، تداعب شعرنا، تتجاذبنا ألحان موسيقى كأنها تنضح من الجدران، تشدنا من أطراف ثيابنا ونفلت الى ساحة كرنفالية، تعجُّ بأنواع حيوانات وطيور تجترح العجائب، رأينا غزالة فوق دكة مفروشة بالسندس تُغني أشعار زهير بن أبي سلمى، وقفت بقربنا نعامة تتطلع بعبوس الى غراب يفكُّ الحلي من أعناق النساء ومن عمائم الرجال، لفتت نظري أوزة بيضاء تشوبها الزرقة، تبطبط بمنقارها لحناً يمزق القلب ويهدّ الحيل، وتتطافر من عينيها دموع لؤلؤية فباغتني صوت تاجر عبيد وجواري، لكزني بخاصرتي، إلتفتُ أليه، يغمز بعينه وكانت له ملامح الرفيق (موحان) لكن بأنف ضخم يتكلم منه بخنة:
(تراوس) هذه الجارية وأعطيك الإوزة المنكوبة التي تبيّض فضّة؟
الحقير يريد مقايضة (سلاّمه) بهذه الاوزة المسكينة، وقالها بصوت عالٍ جذب انتباه الاخرين فتحلقوا حولنا واشتعلت حمى المزايدة:
هذا يصرخ بألف دينار وذاك يهتف بألف ونصف، حتى صرت مع سلاّمه بؤرة إستقطاب هذا المهرجان وجمهور المتسوقين.
أمسكتها بقوة من كفها وهربنا مندسين بين خليط الناس والحيوانات والطيور والاقمشة وصناديق الحلي والأواني. ركضنا من زقاق لزقاق وخلفنا تتلاهث غوغاء حرامية وعصابات وتجار الجواري والعبيد حتى اصطدمتُ بزقاق مسدود مكتوب على الحائط شعار: درب ردب. احتضنت (سلاّمه) وهي تختض وترتجف، والغوغاء يتقدمون ألينا شاهرين سلاح الشهوة، يريلُ من أشداقهم لعاب الشبق، يتلمضون بألسنتهم، وكل واحد منهم يهزّ وتد ذكره المنتعض، يتقادح من عيونهم شررُ المني، فتدخل مُخرج حلم يقظتي: وانهالت على عصبة الغوغاء من فوق السطوح والشناشيل سيولُ وحل ومياه مراحيض وغسيل، وشآبيب طابوق وحجر وأحذية عتيقة وأحشاء حيوانات من مصارين وجرة وكروش تدلقُ الفضلات حتى فرغ الزقاق من عصبة الغوغاء.
خرج أصحاب البيوت ينظفون الارض من القاذورات والأوساخ بينما اصطحبتنا فتاة مزعنفة ترتدي نفنوف حورية البحر وأوصلتنا مشياً على الاقدام خلف السدة التي تحجب بيوت مدينة الثورة واختفت مع زعانفها الوردية، وكانت كفي بكف (سلاّمه) بعيداً عن كاميرات الفضوليين، مثل كاميرا ناصر نابت وميري وكريم كشكول، ، كاميراتهم التي رصدت (سلاّمه) قبلي وانحفرت صورتها الحلمية في حدقات عيونهم فما استطاعوا رؤية أي فتاة غيرها. لقد إحتلت موق عيونهم وشغفت قلوبهم، وطردت نساء الدنيا من رؤوسهم فلا يبزها طيفُ إمرأة غيرها. ضحكوا عليَّ وسخروا مني:
ـ جيرانكم... حايٌط على حايط، ولم ترها لحدَّ الان... أعمتك الكتب وركبك جنّ الفن وضيعك.
ظلوا واقفين خمسة أيام بلياليها أمام باب بيت (سلاّمه)، ينتظرون رؤيتها مرة أخرى. يقول كريم كشكول:
ـ لا يمكن السباحة في النهر مرتين كما يقول استاد (حمود) مدرس الادب والنحو، لذلك هيا لبيوتنا فلا يمكن رؤية هذه الفتاة مرتين.
تفرق الربع وذهبت لبيتنا صاعداً فوق السطح للنوم، حيث الصيف يلفظ لفحاته الأخيرة. وجدت أهلي نياماً ما عدا أخي (محمود) بفراشه الخالي، ربما يسهر في مقهى جبار لمشاهدة فلم السهرة كعادته.وقبل أن أتمدد فوق فراشي فاح صوت أمي هامساً يشوبه الاجهاد والسهد: لا تنم جوعان... عشاؤك في المطبخ. وفعلاً كنت جائعاً، حاولت النهوض على ركبتي للنزول وتناول العشاء لكنني جفلتُ وتجمدت لا رعباً ولا تطيراً، بل من سطوة طيف بجمال لا يطاق: صورة نصفية خلف زجاج نافذة (البيتونة) لبيت عمي الذين انتقلوا الى مدينة (الحرية) قبل ثلاثة أسابيع واستأجرته عائلة جاءت من مدينة العمارة قبل ثمانية أيام.
وراء الزجاج فتاة لا هي من الارض ولا من السماء، أتوجد في العمارة إسطورة كهذه، عافت وتركت أرض العراق بمدنه وبيوته لتحل هنا وتسكن لصق بيتنا، اي قدر شكسبيري توهج وأضاء حياتي بهذا الحضور المشع، أي رحمة، أي معجزة تحققت الان ها..الآن تواً من النافذة. لا ألوم (ميري) عندما كفر، يجدف وهو يصف (سلاّمه) جارتي الجديدة:
ـ خرجت لتوها من بين يدي الله، حارة طازجة ندية، خلق الله الكون في سبعة أيام وخلقها لوحدها في سبعة أيام، جالساً على ركبتيه يحنبُ عليها، يشذب كل زائدة ويصقلها من أي عيب أو نقص، هذه الفتاة يا جماعة حلم الله.
هذا هو بالضبط ما أحسستُ به وهي تقف محاطة بظلمة منفلقة من شدة وجودها المشع، منورة بذلك الثوب الزمردي وشعر يسيل متلاصفاً فوق منحدر الرأس وانحناءات الكتفين، ولأنها صورة نصفية فلا أرى نهاية لهذا الشلال الأسود، كانت تنظرُ ساهية نحوي أو الى نقطة خلفي لأنها توارت حالما وقفتُ أعبُّ من فواح طيفها. يكفي العمارة فخراً انها انجبت (سلاّمه). سلاّمه قطفت روائع جمال قارات الارض، واصطفتها الطبيعة حسناء الدنيا وسرّها الأعظم. تحيرتُ أنا من سلوك فتياتنا ونسائنا حين كنت اراقبهن وأفحصهن أثناء حضور (سلاّمه):
لم تنشب فيهن نيران الغيرة من (سلاّمه)، عكس المتوقع والشائع والأضرب من ذلك كن يتغزلن بـ(سلاّمه) حاضرة كانت أم غائبة، وأتذكر قولة بنت عمي المعلمة (جنة):
ـ سلاّمه تحفة نفيسة ونادرة لا يستحقها رجل.
كذلك الشباب والرجال الذين لمحوها، أخذتهم الغبطة وانشرحت صدورهم، كمن يرى بحيرة زرقاء تلبط فيها أسراب إوز، بعد سجن طويل. هؤلاء اندهشوا بجمال (سلامّه) وهم ليسوا عشاقها ولا سقطوا صرعى مُتيمين في غرامها، إنبهروا بحياد ولم يتدخل العقل والقلب في سلطة العين مثلما يحدث للعشاق الولهين عندما يرون الحبيبة أجمل نساء الارض، لأن الغرام أعماهم وأحدث الحبُّ هلوسة في النظر، إذ تدخل العقل والقلب في سلطة العين، وهذا هو الفارق الساطع بين جمال (سلاّمه) وجمال المعشوقات والحبيبات.


الخنافس
نزع (مكي) بيريته ولطخها بالارض فورما دخل باب الدار وصفقه وراءه، راح يدوس بحذائه فوق البيرية ثم ركلها فتعلقت بأحد أعمدة الساباط الى يساره حيث تليه غرفة العائلة وغرفته مع زوجته بنت عمه، بعدها المطبخ فالحمام والمراحيض في نهاية البيت. (مكي) حبس أبخرة غضبه طوال مسافة الطريق من الحارثية وحتى لحظة دخوله البيت، أ بخرة تحوص في صدره على وشك الانفجار. وإستعر غضبه ليس لانه لم يجد أخاه فقط بل لأنه رأى فظاعات داخل توقيف الحارثية حيث الهاربون والمتخلفون من الخدمة العسكرية. كان قد سمع كثيراً عن صيت الحارثية لكنه الان رأى بعينيه تلك الوجوه الصفر المخيفة والمذعورة، رأى كومة زنابير من الانضباط العسكري تنقض على جندي عنده سبع هروبات، في البدء أخرجوه من الجملون سحلاً ثم انهالوا عليه بالعصي والرفس وهو يصرخ ويتقي ضرباتهم حتى أغمي عليه.
رأى مجموعة شباب داخل بركة آسنة يزحفون. رأى طابور مرضى على وشك الانهيار أمام منضدة يجلس خلفها طبيب، يعطيهم حبة أسبرين أو حبتين من شيشة كبيرة لونها بني داكن، يبتلعون الحبة أمام الطبيب وينصرفون، كل واحد منهم يتحين فرصة للاقتراب من (مكي) ليعطيه قصاصة ورقة تحمل عنوان أهله، لعلهم يراجعون آمرية الانضباط العسكري ويخرجوه من هذا المكان الشنيع، بعضهم بكى وهو يناوش (مكي) قصاصة عنوان أهله حيث أقل واحد منهم لم يتناول الطعام منذ يومين، مع مشاهد كثيرة أخرى رأها وتكدست في صدر مكي، الذي دخل البيت مشتعلاً تحت ملابسه العسكرية وأنفجر حال انصفاق الباب وراءه:
ـ ازرب على الجيش وازرب على الأسس الجيش.
ماذا سيقول (مكي) لو رأى الحارثية بعد سنوات أثناء الحرب العراقية الايرانية، حيث أرض الجملونات مغمورة بالبول والغائط، فلا يستطيع الموقوفون الجلوس أو النوم طوال فترة التوقيف وسعيد الحظ من يحصل على تنكه أو طابوقة أو بلوكه. ينتظرون المحاكمة أو قرار العفو: الضابط يدخل بالهروب إذا غاب يوماً واحداً (24 ساعة) والجندي ثلاثة أيام غياب ويعدُّ هارباً، عقوبة الهروب هي الإعدام.
وتعيس الحظ من لم يجد شيئاً يقيه الارض المغمورة ، فأما ينامون وقوفاً أو يستسلمون للتمدد فوق المياه الثقيلة من شدة الإعياء والنعاس والجوع والقهر، أقل واحد فيهم يخرج من الحارثية يكون مصاباً بالجرب.
في سوق باب الشرقي الذي لا يختلف كثيراً عن سوق عكاظ دحس (زيدون) جسده، حيث الجميع يصيح وينادي الى بضاعته. ويلعلع فوق أصواتهم صوتُ المطرب سعدي الحلي (روحي معلگه بيك). وصل الى باعة الملابس المستعملة (اللنگات) ما بين سينما الرصافي وشهرزاد وبين سينما الحمراء وميامي، يتلاحم رنين الجرس المعلن عن بداية العرض مع رنين صوت سعدي الحلي (جوزي قميصه). (زيدون) اشترى قميصاً سمائياً وبحجة ان يجرب قياسه لبسه بعدما نزع قميص وبيرية الشرطة ليتحرر من عيون إنضباط الشرطة والجيش. ها هو الان نصف مدني ونصف عسكري، يحمل كيس نايلون أسود أخفى بداخله نصفه العسكري، ويهمُّ سريعاً للخروج من باب الشرقي الغاص بالشبهات وصيت بارات العرق الثملة بالمشاكل، بارات تثبّتُ نفاظات السجائر بالمسامير فوق مناضد الشرب لإستفحال ظاهرة السرقة وتحاشياً من استعمالها كسلاح في العِراك بعد نفاد سلاح قناني العرق والأقداح.
دخل شارع السعدون فاستقبله نواح عبد الحليم حافظ (موعود معاي بالعذاب يا ألبي) ، تنسكب أغنيته مع عصير البطيخ والمشمش والزبيب وقعقعة زجاج الأقداح الطويلة الأعناق . تحسّرَ (زيدون) يرثي نفسه وهو يرى الشعر الطويل يهفهف فوق رؤوس الشباب (الخنافس)، وتلك(الزلوف) التي تشبه الفأس، شباب بقمصانهم الضيقة وبنطلوناتهم (الجارلس) ذات الكم العريض، يراهم يتحارشون بالفتيات المحرجات من تنوراتهن القصيرة (ميني جوب) إذ لم تنفع العقوبات الفورية التي تمارسها الحكومة بمفارز تجوب شوارع بغداد: تحلق الشعر الطويل بما يسمونه (شوارع في الرأس) وتمزق بنطلونات (الجارلس) أو تقصها من القدم حتى الفخذ، وتصبغ سيقان الفتيات باللون الأسود.
(زيدون) يتحسر لأن إجازته ستنتهي بعد غد ولم يعثر على أخيه المفقود، سيلتحق بوحدته في (سوارتوكه) فوق الجبال، والرعب من هجمات (البيش مرگه) وقصص اختفاء الجنود والشرطة وأساطير الدببة. سيلتحق ويرى القرى المحروقة التي أشتعلت أمام عينيه، وهو ينظر اليها من فوق الجبل: يرى طائرة حربية تلقي براميل بانزين وطائرة أخرى تفجر البراميل. في كل إجازة يقرر زيدون الهروب وعدم الرجوع الى (سوار توكه)، لكنه يتذكر ما حصل للهاربين فيعود قبل انتهاء إجازته ويلتحق.
تحسر (زيدون) لأنه سيبقى شرطياً الى يوم القيامة، وها هو يتوغل في شارع السعدون وقد غابت الشمس فاشتعلت أضواء المحال المزركشة وتوهجت مصابيح أعمدة الانارة التي تنحني بأدب جمّ الى المارة وهم يتمايلون بشعرهم وألوان ملابسهم الفاقعة، يتوقفون أمام محال تسجيلات الاغاني، يسمعون فرقة (البيتلز) وألفس برسلي، الذي تسميه أمه (أرفس برجلي)، تذكرها وتذكر اخاه الذي بحث عنه في مركز شرطة الثورة ومركز شرطة التهذيب وسينما غرناطة والخيام، فلم تبق إلا سينما سمير أميس التي تعرض فلماً لا يستهوي أخاه المفقود، لذلك تقدم الى شارع أبي نواس واندس في بار لا يعرف اسمه، كرع ربع عرق وعاد الى البيت مموّهاً رائحة الخمر بمضغ حبة هيل وأعواد كرفس، يتصنع الصحو لكنه ظل يتقيأ حتى الصباح.
كما رجع (عبودي) منهاراً بعدما تقطعت قدماه من المشي وأنفاسه من اللهاث، إذ إخترق سبع قطاعات يواكبه غبار خيال يهتز بمصير أخيه المفقود، يفكر بهذا التشابه اللامعقول: تشابه القطاعات، تشابه البيوت، تشابه الشوارع، تشابه حدائق الخروع والسيسبان وتشابه المصائر.
رجع من بيت صديقه الذي له عم يعرف أحد أقارب زوجته، وهذا القريب – اذا وافق – سيطلب من جاره أن يكلم أخاه مفوض الأمن بالبحث في مديرية الامن العامة عن معتقل إسمه: خضر جابر عيسى صويلح، لكن صديق (عبودي) تلفت (360) درجة وهمس بصوت مرتجف:
ـ مفوض الأمن معتقل لأنه أعطى أحد الموقوفين لباساً داخلياً.
بقيت (سلاّمه) مثل بلاّع الموس، تفضح نفسها اذا بكت وحزنت، وهي لا تريد ان يشكّ بها أهلها، وتخنقها العبرة وتغصّ بدموعها إذا سكتت وتصرفت بشكل طبيعي لا أبالي. لذلك لجأت الى حيلة البصل حيث تخفي دموعها بتقشير البصل، حتى امتزج غياب حبيبها برائحة البصل، وابتعد عنها أفراد عائلتها وصديقاتها لتدفق دموعهم فور الاقتراب منها. (سلاّمه) تفوح برائحة البصل الذي جعلها تطمئن على حزنها وتعانق رائحة فقيدها الحريفة.


ـ 3 ـ
من أي مصيبة شمطاء يتدفق هذا الحزن على أمي؟ أم تراها تتنبأ وتشمّ كوارث آتية، تتلمس طريقها ألينا؟
عندما أدخل البيت وأسمع نحيبها كأنها الخنساء ترثي أخاها صخراً، تدلني عليها زفرات النشيج فأجدها منزوية بين محمل ناطحات الفراش وبين دولاب يضم أشياءها ومواعين الفرفوري، أرى دموعها تتسابق في اولمبياد الكرب الاعظم وهي تنكش وتداعب بأناملها الأعشاب اليابسة: حرمل وسعد ومحلب وجذور بخور مع أعشاب أخرى لا أعرفها، اقول:
ـ ها يمه خير؟
ودائماً يبقى سؤالي المسكين معلقاً تحت رحمة سياط الدموع وسفع الانين، فيسقط السؤال مغشياً عليه بلا جواب، واذا أشفقت عليَّ تقول، إنها تذكرت أباها أو أمها أو أحد اخوتي الثلاثة الذين ماتوا قبل ولادتي. ألاّ إني لم اقتنع مرة واحدة بأجاباتها القليلة النادرة والمبتورة.
أعتقد أني خبرتُ حزناً كهذا منذ نعومة دموعي: إنه حزن مجهول الهوية، تبدأ غيومه تتكاثف وتتجمع فوق رأسي ثم تزخها بأمطار حزن لا أعرف كيف تفاديها والفرار منها، أو تتكدس الأحزان مثل مياه جوفية في جسدي تسللت بغفلة مني، تظل محصورة تحوص وتبحث عن منفذ رخو فتنبثق من موقي عيني، تنقع لي خدي وصدغي وتبلل المخدة واللحاف.
الحزن دائماً شتائي لا علاقة له بالصيف، لأن الجسد في الصيف كله يبكي بدموع العرق. ربما أبكي على وجودي الغامض، الذي شعرت به دون علم وفهم وبلا إكتناه، من خلال حشد من الكائنات: أبي، عمومتي، إخوتي الكبار، الجيران، كلهم مدفونون في اجسادهم يعيشون بلا حياة حتى يطويهم التراب، أنا واحد منهم، كيف أشذّ عن ناموسهم وما الذي يميزني عنهم وأتفرد بوجود يخترق العدم والفناء فلا أفطس مثل كلب ممزق على حافة الطريق؟
هكذا أتلفع بحزن بهيمي ونكبة غريزية توحي الى: انني لا أعرف لماذا أنا موجود وما الذي سأوول اليه مثلما أرى بكاء الحمار والحصان والجمل، كائنات حزينة بغموض يفتّ القلب، خاصة الحمار فانا مشدود أليه بعاطفة أقرب الى الحبّ من الشفقة. ألانه حيوان منبوذ مهان مزدرى، وهو لا يعرف لماذا وأي خطيئة ارتكب؟ ما يحيرني أكثر في شخصية الحمار هو نهيقه، صوت ملتبس عليَّ لا أفهمه: بوق نواح موغل برثاء نفسه والإشفاق على جنسه وأجناس الحيوانات ومخلوقات الكون، انه يبكي، كله يبكي من حوافره الى ذيله الى بوزه، يبكي بنواح كاريكتيري وبنشيج منفر، وصوت وقعه عجيب ومباغت، فالنهيق من ناحية: يلهج بأسى ولوعة قديمة خالصة البهيمية، طاغية الشقاء والاستفهام كأنه يتساءل: أهذه حياتنا فقط وذاك موتنا الذي اراه شاخصاً أمامي، وينتهي كل شيء؟ ومن ناحية اخرى: هو نهيق لجوج، يلحُّ برغبة حمقاء في النكاح ونزوة مزعجة. ألم يكن من كلا الناحيتين محقاً؟
اعترف بأني لم أفهم مطلقاً سرّ النهيق: هل هو نداء الغريزة أم جعير يختصر مأساة الوجود، فهل حزني وحزن أمي مثل حزن الحمار؟
إن مشكلة البشر الفاقعة والخانقة والطاعنة في القدم: انهم يتناسخون معرفتهم، تتناقل من جيل الى جيل فتصبح معلبة في ثلاجة التقديس، لا يجرؤ أحد على دحضها ومخالفتها، لذلك بقيت وصمة الحمار بالغباء والحماقة، سارية المفعول تتوارث أباً عن جدّ. بينما الحمار المسكين اذكى جميع الحيوانات ويعرف الطريق لمجرد مروره فيه مرة واحدة فقط، وتسير الحيوانات خلفه ايام زمان عندما كانت وسائط النقل مقتصرة عليها. والحمار مرهف الحس شديد الكبرياء، إذا أهين يحرن ولا يتزحزح ولو بالضرب الممضّ القاسي، لكن ضراوة ووحشية الضرب تجعل جسده يخونه فيمشي. مثلما يحدث في احتفالات التعذيب والاستجواب في أقبية وطوامير الأمن العامة والاستخبارات والمخابرات. إعتقلوا صديقي (أوميد) الذي كان يحدس مصيره بالتمارين على"بطل " الببسي كولا، استقبلوه في مديرية الامن بالعصي والكيبلات والتعليق في مروحة سقفية، لكنه قاوم هذه المقبلات لوجبة التعذيب، قلعوا أظافره ورشوا في مكانها الفاغر خلاً وملحاً ولم يعترف على نفسه وعلى أصدقائه، أجلسوه فوق بطل الببسي كولا المكسور الفوهة، فتمزق لحمه وشاغت روحه، بدأ جسده يضعف وتنهار قلاع صموده واحدة تلو الاخرى. وهنا لم يتدخل المخرج ولا أشار لهم بالتوقف، لأنه مخرج حياتي لا حياة غيري، ربما مخرج حياة (أوميد) سادي، يتمتع بدراما ورطة الجسد وينتظر ذروة الصراع بين الخيانة وبين وفاء الصلابة والجلد، أو ربما هو مخرج غير مكترث بمعجزة الفن. انهارت آخر قلعة في جسد (أوميد) حين جرحوا خصيته ودسوا سلك كهرباء في عمق الجرح، تتصاعد فولتية الكهرباء كلما يسكت وكلما يفيق من إغماءة حتى خانه الجسد وراح لسانه ينطقُ تلقائياً رغم أنف العقل، وذكر اسمي أثناء فيضان هذيانات اللسان. لقد تجاوز حدّ الاحتمال وعبر برزخ صدمة الموت، خانه جسده لينقذ نفسه فغريزة البقاء أهم وأعمق من أي معتقد وفكر. خانه ليحافظ على ما تبقى من جوهره الحي.
أضحكني (أوميد) عندما التقينا في المعتقل، بعد إنتهاء حفلات التعذيب واكتمال سقف التحقيق الذي يخرُّ منه الدم. كان جسده مثخناً بجروح يفوق عددها أسماء الذين إعترف عليهم، ووجهه يتكسر الى شظايا ألم مكتوم وعينه اليسرى تدمع، وهو يهمس لي حكاية إعتقاله وتعذيبه، وأشار الى صبي عمره حوالي اربعة عشر عاماً كان يصلي، قال بزهو: إسمه كميل، هو أصغر وأصلب معتقل هنا في مديرية الامن، تصور في كل مرة يرجع فيها من غرفة التعذيب، وهم يسحلونه في الممرات، ينتقي قطف سيجارة لا يزال فيها نصف روح من الدخان، يجرها بقدمه والدماء تسيل منه حتى يوصلها هنا إلينا، رغم انه لا يدخن .
أضحكني (أوميد) حين قال: تشنُّ السلطة كما يقال حملة على الشيعة والاكراد والشيوعيين، فكيف بي وأنا شيوعي وكردي وشيعي؟.
ثم تحامل على ضجيج آلامه وبالكاد مسح بكفه عينه اليسرى، وهمس لي بأنني سيطلق سراحي، لكنه لم يهمس لي بانه سيموت.
(أوميد) متعلق بأمه كجنين في رحمها، وهي متعلقة به كأنها حامل، يقول: كنت أنام في حضنها وانا بهذا العمر، الحضن لي وحدي دون إخوتي وإخواتي، تداعب شعري باناملها حتى اغفو وأحلم، الان اكتشفت سرّ انجذابي اليك، أشمُّ فيك بعضاً من رائحة أمي .
وأنا عكس أوميد تماماً، أنا الوحيد من إخوتي وإخواتي لا ألمس أمي حين يصرعها الم الصداع النصفي وحين تنهشها مخالب الروماتيزم ، حتى أخزتني أمام قلبي وأمام الجميع في واحدة من إحتضاراتها المزمنة، وهي تصارع أوجاعها، ونهرتني معربة عن شكها وريبتها من محبتي وعطفي عليها:
ـ ولك يمه أنا نگسه... تخاف تمد ايدك عليَّ؟
بينما كنت أتحرق الى لمسها وتدليك مفاصل قدميها ويديها، لكنني لا أجرؤ، وأتهيبُ من مسّها لقداستها عندي، أتملّخ من وجعها ومن رعونتي في عدم الارتماء في حضنها والصراخ بدموع طفل تائه: آخ يمه... أنا أخاف عليك من يدي النجسة، كفيَّ لا تمس عزيزاً عليَّ إلا وكسرته.
هـل في تصـرفي هـذا صـلة بعـدم تصـديقـي للـواقـع، أو عـلاقـة بفقـدان المعقــوليـة بــه فــلا أُصــدق
ما يجـري ويـدور أمامـي تصديقـاً خالصـاً صافيـاً من كـل لبس وخيال؟
ما حدث لصديقي (أوميد) وليَّ هو لقطة سريعة وعابرة من حلم حياتي الطويل. إذن كيف سأخرج لو دخلت الى بحيرة ضيم أمي، أمي التي إذا مرّ يوم رائق، شفيف لا تعكره دمعة ولا تعبره غيمة حزن، يوم متألق، خالٍ من ندبة كرب أو لطخة مأساة ، تظلُّ أمي متوجسة من هذا اليوم، تخاف وتمسك قلبها لئلا يكون بعد هذا اليوم أشر الايام طراً، وتبقى فريسة للقلق، متطيرة بهاجس منذر غادر من الغد، لا لشيء سوى انه يوم أفلت من طقس الفجيعة المعتاد؟
وأنا لا اتذكر امي بغير ملابس الحداد، كيف سأخرج لو ورثت عنها جينات الضيم هذه؟
سألني أوميد: هل تتخيل أن تلتقي أمي وأمك، تنام الواحدة جنب الاخرى مثلما ننام انا وانت الان في هذه الزنزانة، وتتهامسان عني وعنك في حديث طويل يمتد حتى الفجر، ترى ما هو إنطباع امك عني وانطباع أمي عنك، من ورط من؟
أجيب: نحن ورطنا أمهاتنا ألعن ورطة.
ـ أوميد انا مستغرب وحائر من هذا الضحك المتهور الذي يهجم علينا هنا ونحن في قعر جهنم الدنيا، ضحك يشبه ما يحدث في درس عصيب في المدرسة والمعلم صارم لا يتفاهم، ضحك نخنقه ونكتمه فيزداد ضغطه وقوة احتباسه حتى نكاد نفشل في كتمه وأخاف ان ننفجر ضاحكين كالمجانين، نحن نضحك هنا اكثر مما في الخارج.
سكت أوميد وغاب عما حوله غاطساً في بئرنفسه حتى خرج عليّ بصوت عذب ملتاع، ظل يهمس في اذني مثل دفق شلال بعيد حتى غفوت ونمت ولم أدرِِ ، يتكلم عن حبّ هائل يشبه المعجزة، حب طوفاني مترامي الأشواق، كأنه يترجم حبي لسلاّمه قبل وبعد معرفتها:
(أوميد) قبل إعتقاله كان قد دخل عصر الحبّ، يغني بلوعة واحتضار الى حبيبة تركته مسجى فوق غيمة الفراق والهجران، وهو لم يعرف هذه الحبيبة بعد ولم يتخيل رشاقة قوامها وجسدها ولا لون بشرتها أو ملامح وجهها.
يبكي بصدق نظيف ناصع الطهارة، يحسده عليه مجنون ليلى ويشفق عليه روميو. أوميد متيم بحب لا أحد، يعشق كلَّ فتيات الارض، كل الجنس الانثوي، لكنه هائم بحب لا أحد، حبيبته مفترضة، غائبة لم تخلق بعد. كل من يراه يشخص علّته: مريض بالحب. ويتساءلون من هي حبيبته وأين، يا ترى من تستحق كل هذا الشوق الماورائي، كل هذا الحبّ البركاني. أوميد ذاته لا يعرف هي من وأين تسكن، ومتى شغف قلبه بها؟
أوميد غارق طامس في حبّ لا أحد. وأول أعراض الاصابة بمرض الحبّ هو الغناء وكان يغني حالما يتخلص من عقدة وجود الاخرين وخاصة في الحمام، إذ غالباً ما يدخل الحمام ليزيل وسخ الهموم المتكدسة على قلبه الغضّ أكثر مما يزيل أوساخ الجسد.
أوميد يحبّ لذات الحب، كذلك غناؤه يتفايض لذات الغناء.
استيقظت من النوم فوجدت (أوميد) نائماً حالماً يرفرف فوق وجهه طيف الحبّ. بينما تذكرت أمي، لا بد أنها الآن سوّت بيتنا أعراس مأتم وحياتنا جنة مناحة طوال ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوماً في مديرية الامن، متهماً بالشيوعية وحزب الدعوة ومناصرة الاكراد، متهماً في قضية ورد إسمي فيها سهواً أثناء هذيانات الجسد تحت التعذيب.




كرش الجيش
في منطقة دكان كشكول في قطاع (33) لم يسمع أحد من الجيران زعيق الططوة فوق بيت شرطي المرور جابر حين اختفى إبنهم (خضر قد) أبو لسان المكسور، ولم تسمع (سلاّمه) تعويذة (سچين وملح) في أي مكان، رغم ان جسدها تشكّل على هيئة أذن تنتصت الىكلَّ نأمة في بيت جارهم. وبعد اختفاء حبيبها مدّت مجسات لا مرئية تلتقط جميع الأصوات والآهات والأنات، جالسة مصغية تنتظر هسيس خبر قد يندلع في أية لحظة. جالسة تحفُّ بها هالة البصل، ترثي نفسها داخل دوامة من الإشفاق على الذات: تركت دراستها الاعدادية في العمارة حين أرغمها أهلها (البنت للزواج حتى لو صارت دكتورة) بعد اسبوع فقط من إعلان الخطوبة لأبن عمها الذي لا تطيقه. انتقلوا من العمارة الى بغداد قريباً من بيت الزوج المقبل.
البنات عكس الاولاد المتذمرين من المدارس، فالدراسة عندهن الباب الوحيد المفتوح في سجن الواقع، المسكينات حتى في طفولتهن محرومات من اللعب مثل الصبيان، الذين جعلوا مراتع اللعب تبتلع الرحلات (مقاعد الدراسة)، لأن الرحلات فيها مسامير كثيرة تخز مؤخرات وأقفية الطلاب، مسامير تنطّ من الخشب برؤوس مدببة تدمي جلدوهم: مسامير الخوف الغامض والمتعدد الرؤوس، والخوف من عصا المعلم ومن الصفع والرفس. مسامير العبث والسخرية من المستقبل طالما الجيش يطاردهم حتى لو نالوا شهادة الدكتوراه، لا يفلت عراقي من البسطال والبيرية، مع مسامير الجدية الخانقة التي تجثم على صدر المدرسة، ومسامير كثيرة واخزة لا ترحم وليس لها أسماء.
وها هو ( ميري) يقف قرب دكان كشكول يفكر في عذر جديد وحجة لم تخطر على بال، كيلا يداوم ويذهب الى سجن المدرسة، ما الفائدة من ذهابه بلا عقل وقلب إذ حالما ينطق مدرس القواعد (كان وأخواتها) يطفر قلب (ميري) الى حبيبته (لندن)وأخواتها، يتمثل (لندن) بسوادها اللامع، يتلمس بشرتها الأبنوسية، يغوص بليل جسدها واسراره. (ميري) يحفظ كل أشعار ألف ليلة وليلة ويحفظ قصائد عنتر وعبلة بينما لم يحفظ بيتاً شعرياً واحداً من كتاب النصوص المقرر للمنهاج الدراسي. انطلق (ميري) يتغنى بسواد حبيبته (لندن) في محافل العشاق وحفلات الأعراس حتى دوّخ معظم شباب الثورة وارغمهم على حفظ وترديد هذا البيت الشعري: الناسُ تعشق من خال بوجنته/ فكيف بي وحبيبي كله خال.
وحده (كريم كشكول) من بين ربعه إجتاز مسامير الدراسة وظلَّ اصدقاؤه راكسين يراوحون في وحل الرسوب سنة بعد سنة حتى تركوها بلا رجعة، وانفتحت أشداق عفريت الجيش، يبتلعهم واحداً تلو الآخر أما متطوعين رغم انوفهم هرباً من الخوف الى قلب الخوف، ومن وساوس الانتظار وإقتراب وحش الجيش منهم حال بلوغهم سن (18) عاماً، مع كومة أسباب أخرى أهمها مساعدة أهاليهم في لقمة العيش. ولأن الخدمة العسكرية طويلة والتسريح يشبه المعجزة. تطوع (ناصر نابت) الى صنف المخابرة واللاسلكي، وكان آخر المتطوعين في عائلة شرطي المرور جابر ابنهم (عبودي)، الذي تطوع الى صنف الهندسة العسكرية وأبلى بلاءًحسناً وشجاعة لا يشق لها غبار في الحرب العراقية الايرانية، عندما كانوا يزرعون الالغام و(عبودي) بصفته (لغّام) الوحدة، كان يرفع الصاعق من اللغم فيبقى مجرد حديدة ميتة مدفونة بالارض. ولم يطلق رصاصة واحدة باتجاه العدو. ولم يفكر وقتها باللجوء الى ورش العوق التي انتشرت في شارع (مريدي) أحد كواليس الحرب، ورشة لبتر الأصابع خاصة إصبع السبابة والابهام من الكف اليمنى فيصير الجندي (غير مسلح) وينجو من الموت في جبهات القتال، ورشة لكسر اليد اليمنى، وورشة لكسر أحد الرجلين، ولكن أبشع هذه الورش هي ورشة قلع العين.
هنا خرجت سلاّمه من صفنتها وتفكيرها الغارق بالإشفاق الذاتي: الزواج بالنسبة للفتيات هو نوع من الخدمة العسكرية، لا تفلت أي بنت من هذا القدر، بعضهن يتطوعن للخدمة الزوجية والكثير منهن يجبرن على اداء عسكرية الزواج. الجندي ربما يتسرح بعد طول انتظار او يتقاعد أو يتعوق، لكن الفتاة لا تتسرح أبداً من الخدمة الزوجية إلا بالطلاق أو الموت، الجندي ربما يهرب اذا سنحت له فرصة ومكان يأوي أليه، فالى أين تأوي الفتاة اذا هربت من الخدمة الزوجية؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://altajali.ahlamontada.com
 
رواية خِضِر قَدْ وَالْعَصْرُ الْزَيْتُوُنِيِّ
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» رواية زوربا اليونانية
» رواية زوربا اليوناني الفصل الأول
» رواية زوربا اليونانية الفصل الثاني
» رواية زوربا اليونانية الفصل اثالث
» رواية زوربا اليونانية الفصل الرابع و الأخير

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى التّجلي  :: الأولى :: منتدى الروايات العربية و العالمية-
انتقل الى: