الاصدقاء الثلاثة و الطاعون لعادل الأمين
________________________________________
مدينة وهران تبدو في الواقع مدينة عادية لمن ينظر إليها لأول مرة إذ أنها ليست أكثرمن مدينة فرنسية على الساحل الجزائري, نحن نعترف بأن المدينة في حد ذاتها قبيحة المنظر ولابد من الوقت لكي يدرك المرء لماذا تختلف هذه المدينة عن غيرها من المدن التجارية الأخرى. وذلك لمنظرها الهادئ. إذ كيف يمكن أن نصور للقارئ مثلأ مدينة لايوجد فيها حمام ولا أشجار ولا حدائق ولاتسمع فيها خفقات الأجنحة ولا حفيف الأوراق. بالاختصار كيف يمكن لنا أن نصور مكانا لا شىء فيه يثير الاستطلاع. تغير الفصول بها لايقرأ الا على صفحة السماء. ذلك أن الربيع إنما تعلن عنه طبيعة النسيم وسلال الزهور الق يجلبها صغار الباعة من الضواحي أنه الربيع الذي يباع في الأسواق وفي !ثناء الصيف تكاد الشمس تحرق المنازل المفرطة في الجفاف حرقا وتغطى الجدران برماد داكن وحينئذ لا يمكن للسكان الحياة إلا خلف الأبواب ونوافذهم المغلقة , أما في الخريف فعلي العكس من ذلك يجتاح المدينة طوفان من الوحل أما الأيام الجميلة فلا تأتي إلا في الشتاء، لعل من أسهل الطرق التي يعترف بها الإنسان على المدينة أن يبحث كيف يعمل الناس؟ كيف يحبون ؟ وكيف يموتون ؟ ففى مديتنا الصغيرة و قد يكون ذلك من تأئير الجو يحدث كل هذا بطريقة واحدة عصيية مذهلة , معنى هذا أن السام يدرك أهل المدينة أنهم يبذلون جهودهم حق تكون حياتهم سلسلة من العادات الراسخة ومواطنونا يعملون كثيرأ وهدفهم الدائم هو الثروة والتجارة اكثر الاشياء إثارة لاهتمامهم فهم على حد قولهم يشغلون أنفسهم بعقد الصفقات ومن الطبيعي أنهم يميلون للمباهج التي يميل الناس إليها جميعا فيحبون النساء والسينما وحمامات البحر ولكن حكمتهم تدفعهم للاحتفاظ يهذه المسرات لمساء السبت والأحد باذلين جهودهم طوال أيام الأسبوع الأخرى، في كسب الكثير من المال و في المساء عندما يغادرون مكاتبهم تراهم يتجمعون في ساعة معينة في المقاهي ويتنزهون في الشارع الكيير أو يجلسون على شرفات منازلهم وإذا كانت الملذات التي يغمس فيها الشباب عنيفة قصيرة الأمد فإن رذاثل الشيوخ لاتتعدى جماعات هواة كرة اليد وحفلات جمعيات الصداقة وحلقات لعب الورق حث يقامرون بمبالغ كبيرة .
الباهية أو وهران مدينة الطاعون كما وصفها الكاتب الفرنسي البير كامو كانت مدينتهم , كانوا ثلاثة محمد الجميل وحسن البطل وطاهر الثعلب , هذه أسمائهم أيام المقاومة الوطنية لدحر الاستعمار الفرنسي للجزائر ولدوا في هذه المدينة في سنوات متقا ربة، يمثلون خلية نشطة. محمد الجميل يقوم بالأيقاع بعشيقات الجنود الفرنسيات ويعرف منهن تحركات الجنود في حامية المدينة ثم يقوم طاهر برسم الخطط وحسن التنفيذ أو ثلاثتهم معا، عملت الكمائن الناجحة في المدينة كابوس للاستعمار واتنهت أيام الكفاح المشرقة، تقدم العمر بالأصدقاء التلاثة درس محمد الجميل الأدب وأصبح حسن البطل ضابط في الدرك !ما طاهر فقد أصبح محامي لا يشق له غبار.. مضت أيام بومدين الوداعة وجاء الآن البشع، عاد الطاعون مرة اخرى للمدينة لكنه كما قال الراوي أتخذ شكلأ جديدا , شكل بنادق وقنابل مسعورة تقتل وتفتك بالجميع، إنها تداعيات الحرب الباردة ء أما صديقنا كوثار فلا بلا أن يتخذ شكلا جديدا أيضأ، جاء متلبسا بلبوس الفساد الذي أفرزته الشمولية المزمنة التي خيمت على البلاد...............
مظاهر الثراء الباذخ المشبع بثقافة الغرب المادية الذين تمتعون ويأكلون كما تاكل الأنعام لقد حار الراوي في ظهور الطاعون مرة أخرى بهذا الشكل المفاجئ وقد عزي، ذلك لسطوع شمس. الديموقراطية الباهر الذي أرعب الجميع فانطلقوا يتخبطون في الظلام كالخفافيش استشرى، الطاعون في كل البلاد فتك بالجميع من قادة ومثقفين ومبدعين وطلاب وأطفال لا نريد أن نسهب في وصف هذا الوباء الجديد يمكننا أن نأخذ قصة أصدقانا الثلاثة كنموذج لهذا الطاعون البشع كما وصفها الراوي , محمد الجميل الذي كان الابن المدلل والوحيد لرجل ثري يعمل في حقل صياغة الذهب والأحجار الكريمة , جعله ذلك كتلة من المشاعر والأحاسيس كل ما يتمناه يدركه وقد عزي الراوي انضمامه إلى الجبهة الوطنية مع صديقيه الآخرين كنوع من المغامرة وتعلقه بصديقه طاهر الذي كان .بمثا بة العقل والأخ الأكبر الذي أفتقده في أسرته المثلثة. . لسبب ما لعله من تداعيات الماضي المؤلم انظم محمد الجميل للأصوليين وهرب إلى الجبال والمجاورة للمدينة، ثلاث صدمات على فترات متباعدة قادته إلى ذلك.
الصدمة الأولى عندما توفي والده في حادث سيارة في الستينات , كانت صدمة مروعة جعلته يعرف طريق البكاء لاول مرة , لكن امه الطيبة حاولت جاهدة أن تسد الفراغ الذي تركه احتجاب والده الثري وما أن بدأت جروحه تندمل حتى جاءت الصدمة الثانية عندما نبذته فاطمة الجميلة ورفضت الاقتران به لماضيه المشين مع الفرنسيات، كان يحبها بجنون وأرتضت الزواج من صديقه حسن، تهشم قلبه وانكفأ على حياة مبتذلة، أدمن شرب الخمر والتعامل مع الساقطات , أنفطر قلب أمه عليه وهي ترى وحيدها يذبل أمامها لم تفلح كل توسلاتها لإعادته إلى جادة الطريق والزواج من امرأة أخري، ذهبت جهودها عبثا فهى لا تعرف أن لآبنها قلب من زجاج وقد تحطم ذلك القلب , الصدمة الثالثة كانت قاصمة الظهر عاد يومأ إلى آلبيت مترنحأ ليفاجأ بصراخ الخادمة , توفت أمه المسكينة ذاب قلبها الضعيف على أبنها، ماتت بالسكتة القلبية في ذلك اليوم في المقبرة ذرف محمد الدمع المر وأثناء عودته بعد الانتهاء من الدفن وتفرق المعزيين تتداعى الى اذانية صلاة المغرب من مسجد في الجواروجد قدماه تقوداه الى المسجد مع كل مركبات الذنب والاحساس بالضياع الذي يعتمل في نفسه الحساسة وجد نفسه مع قوافل المجاهدين الى افغانستان , عرف صديقاه ذلك لاحقاً واضحت المعادلة الصعبة , محمد الجميل مع العائدين من افغانستان ويتمنى دائماً الا يقع صديقه حسن ضحية إحدى الكمائن التي بنصبها رفاقه وقد سبب ذلك الآم مبرحة كان يراها رفاقه على محياه الوضيء على ضوء النيران المشتغلة في الكهف البارد عندما يتأمل الصورة الغامضة التي تحوي ثلاث اشخاص في مقتل العمر بملابس عسكرية , كانت زي المقاومة الوطنية للاستعمار , المرارة الحقيقية ظل يعانيها حسن البطل عندما يرى زملاءه يتعاملون مع المعتقلين بوحشية , اما طاهر الثعلب صاحب الميول اليسارية والمرافعات الشهيرة التي دفعت بالكثير من هؤلاء التعساء الى المشانق فقد اصيب بصراع حاد بين قلبه وعقله " ماذا يعفل إذا كان صديقه في قفص الاتهام ؟!
هكذا اصبح حال الاصدقاء الثلاثة في هذا الزمن الحراجي عيون لاتنام وصراع نفسي مرير يدعوا الى الجنون الذي اصبح من أكبر اعراض الطاعون الجديد .
كان هذا الكمين الثالث لمجموعة محمد الجميل ومعه اثنين ينتظرون فرصة نزول الصيد الثمين من السيارة رفع محمد يده , نزل الضابط بهدوء وأدار لهم ظهره ليقفل باب السيارة , رفع محمد يده وأستعد الرفيقان لاطلاق النار استدار الضابط على ضوء سيارة عابرة , لمح محمد وجه صديقه حسن , صعقته المفاجئة , دوى الرصاص حتى دون اشارة منه , هب محمد واقفاً واطلق صرخة الم حادة, لم يعد يعي شي سوى أن قدماه قادتاه نحو الجسد الممد على الارض يتخبط في دمائه , ركع محمد جوار صديقه واداره نحوه, نظر حسن الى وجه صديقه الذي تغطيه لحية كثيفة وعرفه , حاول الابتسام وررد " وجه جميل ولحية بشعة " نظر محمد في أسى الى وجه صديقه المحتضر وامسك بيده الدامية , تداعى اليه الماضي البعيد , هذه اليد المضرجة بالدماء لطالما ذادت عنه غوائل الحواري في الطفولة البعيدة .
حسن البطل الابن الاصغر من أصل أربعة ابناء لرجل يعمل في الدرك , كانت للتربية الصارمة التي جعلت البيت اشبه بثكنة عسكرية دورها الفعال في ان يهاجر اخواه الكبيران الى فرنسا ويقيمان فيها بصورة دائمة واخته تزوجت من رجل يسكن في العاصمة الجزائر , أما هو فقد بقي في وهران ليشربه والده الحب العميق للعسكرية وانضم الى سلك الشرطة وأصبح ضابط , الشي الذي ينسجم تماماً مع طبيعته الموروثة بالشجاعة والقوة والاتزان بين العقل والعاطفة .. حضرت دوريات الشرطة لتواجه منظر غريب احد الاصولين يجلس بجانب ضابط مقتول ينتحب بحرقة وفي يده بندقة آليه , اندفع الجنود نحو محمد وسحبوه بقوة , اقترب جندي وركع جوار الضابط الذي كان يلفظ انفاسه الاخيرة , امسك حسن بتلابيب الجندي وادناه من فمه الملوث بالدم وهمس بصوت واهن : (( صه !! إنه لم يقتلني , انه لم يقتلني , لابد أن تشهد بذلك )) ثم فاضت روحه , نظر الجندي حوله في دهشة عظيمة ولمح الصورة التي سقطت من محمد الجميل ودسها في جيبه وانصرف ...
في المحكمة كان هناك سته من الاصولين في قفص الاتهام حضر طاهر اليوم مبكراً وقد اعد مذكرة اتهام قوية , سيرسلهم الخمسة الى المشنقة أو السجن الموبد , المسكين لايعرف شي عن المتهم السداس الذي اضيف حديثاً , بدات اجراءات المحكمة , بدا الحاجب في قراءة أسماء المتهمين والجرائم التي ارتكبوها المتهم السادس محمد بن علي الشهير بمحمد الجميل قام بقتل العقيد حسن بن يحيى التيممومي في يوم ..... "هب طاهر كالمصعوق عندما ترردت اسم المتهم السادس في القاعة واندفع نحو القفص الاتهام واخذ يقلب عينيه في الوجوه الذابلة امامه , نهض محمد من بينهم اندفع نحو القضبان احتضن صديقه طاهر وهو يهذي لم اقتله !! لم اقتله يا طاهر ! .. اقترب جندي من طاهر دس في يده صورة وهمس في اذانه " انه لم يقتله , انها شهادة المحتضر وانا اقسم بذلك . كان من السهل على طاهر ان يصدق الجندي فهذه رحلة عمر وتجارب سنين حافلة بالعطاء , اغمض طاهر عينيه وسط ذهول الحاضرين واصبح عقله يعمل كالماكينة , هناك لجنة من حقوق الانسان ووفد من العلماء والاطباء النفسيين سيصل البلاد خلال اسبوع ليقوموا بدراسات طويلة على ظاهرة التطرف واسبابها وطرق علاجها وهم في حاجة لعينات يجرون عليها تجاربهم ودراساتهم الطويلة , لماذا لا يكون محمد الجميل احد هذه العينات ؟! افلت طاهر صديقه المنهار الذي تكوم على الارض وعاد الى مكانه , قلب عريضة الاتهام . وبدا في ارتجال مرافعة جديدة حافلة بالشفقة والاسى على هؤلاء التعساء , بعد ان لرفعت الجلسة وخلت القاعة انهار طاهر ودفن راسه بين ساعديه وتداعى اليه ماضيه المرير بكل احزانه , قتل الفرنسيون والده في عملية لتهريب السلاح للثوار , تزوجت امه رجل أعمال ورحلت معه الى العاصمة لم تكن اسرته منسجمة , والده الراحل كان للاسف شديد القسوة وفي عراك دائم مع امه لذلك رحلت أمه لتبدا حياة جديدة , طاهر هو الضحية , كانت لا تريد ان تتذكر ماضيها تركته للاقدار يعيش حالة التشرد والمدارس الداخلية وقد اكسبه ذكاؤه الفطري ومعاناته الطويلة أفكاره الاشتراكية الشيء الذي يبهر صديقه محمد , فقد ظل يضيء له اماكن مضلمة في عقله عن معنى الحياة , هذه الحياة القاسية لها سلبياتها أيضا فقد تصحرت مشاعره واصبح عقلاً صرفاً مجرد من العاطفة , واصبح هو وصديقه محمد يكملان بعضهما البعض , هكذا جرت الاحداث كما ذكرها الراوي وقد ختم مذكراته بأن طاهر الذكي تمكن من اثبات براءة صديقه بسهولة , أولاً البندقية التي وجدت بحوزته كان في خزنتها العدد الكامل من الطلقات حسب شهادة جندي مختص وعززت شهادة الجندي الذي حضر الوفاة براءة المتهم السادس , اصبحت التهمة الوحيدة الموجهة لمحمد هي حيازة السلاح بدون ترخيص , هل انتهى الطاعون ؟!!! لا أحد يدري , فقد مات الراوي نفسه بهذا الوباء الوبيل
[b]