رواية " زنيم مرة أخرى "
بقلم : فوزي الديماسي
-1-
على عتبات غربة زئبقية ، قاب قوسين أو أدنى من شروق ضليل ، تلوح على مقربة من البحر أرض مدججة بالدموع السوداء و بخور الموتى .
قافلة نخرة، ناسلة من عمق التيه ، تخبط في الليل الملطخ بالعويل خبط عشواء ، تسير على درب متيم بالأشواك المخضبة بدم الفجيعة .
القافلة العارية إلا من رحيلها المحموم ، موجهة وجهها شطر الأرض المضرجة في الأنياب ، تغازل رؤاها المتعبة شمسا ذابلة تطل من كوة حلم عابس .
عواء يشق نقيق القبور اللائذة بأعشاشها، و الجثث المجلّلة بالصقيع ترمق بعين قاحلة كلابا تمزق بشراهة زئبقية ابتسامة طفل وليد يهدهد حلما شريدا قابعا على ضفّة الريح الرابضة على باب الوقت الآهل بالفراغ.
سرب حمام مهيض الجناح يحلق فوق البحر المراقص لعاصفة متغنّجة ، عاصفة مجنونة تلاحق بألسنتها الممتدة كالسعير قطعة خشبية يتيمة تصارع بشراسة مخالب الموج ، الخشبة على يأسها تدفع رغم العواصف و الأنواء بصبح الجثّة الواقفة على كفّ المنيّة نحو المرافئ ، الجثة الناسلة من زمن الحكايا مستمسكة بالخشبة و الأمل ، تدفع بعسر صبحها نحو الشاطئ اللائذ بالصمت ، و الصمت المرتعد يتتبع العاصفة الرافعة في وجه الزورق رباطة جأش بدائية .
الواقف على متن الزورق في وجه المغناج كتوم ، يجترّ بين الفينة و الأخرى شتيت رجولة محطّمة على صخرة التيه الأزليّ .
الجثة و الزورق و الخوف و البحر الهائج كالتنّين، و الموج المتصاعد في رقصة جنونية نحو السماء يمزّق بكل ما تضمره أنيابه من مكر جثّة السكينة ، و الواقف في وجه المنيّة على متن خشبته متشبّث بأفق رميم .
الليل الكثيف يرقب من ثقب الرحيل المتعفّن راكب البحر و مطيته المتلعثمة في جفن الردى ، و البحر المزبد يراود الزورق الشموس عن نفسه . و الأرض على مقربة منهم مجهدة لا تنبس بحرف ، تشيّع بعينين مثقلتين بين الحين و الآخر تخبّط الزورق و صاحبه المتسمّر في الإصرار.
تعثّر الزورق في وجه الغاضبة مرات عديدة ، و كذلك تدحرج الغريب الواقف على الشوك كأنّ المنيّة تحته من رأس الدود إلى أخمص قدميه، و بعد عناء طويل ، و بعد مكابدة شرسة أتلفت بعضا من حجب الليل ، بلغ الزورق الشاطئ المترهل.
****
نزل أشعث الأحلام مبلّلا، خائر القوى ، لاهثا ، دافعا بزورقه المرتجف بين يديه المتعبتين نحو الرمل ، تارة في رفق، و طورا في عنف ، و لمّا بلغ به اليابسة أسلمه لسكون البون و مصيره.
****
ترك الغريب زورقه حجرا هامدا بعدما أنزل منه متاعه و نخلته رفيقة دربه ، ألقى الغريب بجسده غير بعيد ليسترد بعضا من أنفاسه المتعتعة ، و يلملم مزق راحة كان قد فقدها على متن البحر الرافل في أمواجه البركانية . بقي الجسد قسطا من الزمن لم يقدّره كأنّ الشوك يهدهده .
و لمّا حلت بالبدن السكينة ، و استردت نخلته أنفاسها ، اجتث الغريب جثته من رمل الشاطئ ، و عواء الحلكة يحرسه ، و الريح تمدّ نحوه ألسنتها الحارقة ، اتجه بخطى متعبة نحو زورقه الرابض في خشوع ، و طاف به مرات عديدة كمن يبحث عن شيء ذي بال فقده ، ولما أعياه التّطواف جثم على دمعتيه و راغ عليه بالتقبيل ، و الزورق متدثّر بجليد اللغات .
اطمأنّ الغريب في جلسته و ضمّ إليه نخلته ، و بعث بعينيه يد رحمة تهدهد الزورق ، و تهدّئ من روعه ، و تبثّ فيه شيئا من الأمن ، و الزورق على سكونه يبدو مضطربا .
دوّت في تلك اللحظة نواقيس الجنائز السرمديّة في أرجاء الشجن المنبسط ، و اعشوشبت السكاكين العمياء حول الغريب و نخلته ، و انتشرت العناكب تلفّ حروف الموتى بخيوط من وهم الفارّين من زمن السياط . اضطرب الغريب بين يدي الوجود المقطوعتين ، و أسند جمجمته المثقلة إلى نار بربريّة الهوى
و انهمر من لسانه نشيد القبائل المسبيّة :
على كف الريح استريحي ....
يا النخلة الممتدة في وريدي ....
يا الحاضنة لربي المنشود ...
يا الباسقة بين جنبي نورا متوشحا بالغد المطرود ...
يا النخلة … يا الممتدة نحو الله … ردّي عليّ وجهي ...
و اكرعي من بؤبؤ دمي صحوك و صحوي ...
و استبيحي تحت قدمي الحمامة المسرحة في شراييني نحري ...
و انفخي في وجهي قمم الجبال … أجنحة الطير...
لكي ألدني من بين أصابع أرضي المنذورة للعواء و النهب ...
وانفخي في لساني الطوفان… وبثّي فيّ و فيك شرفة القمر
واسرجي أنفي للشرف المغلول بسلاسل العرش الأبدية
يا نخلتي … يا المنذورة لربي و الرحيل ...
يا الرافلة في عروقي … هزّي إليّ بخيط الشمس الكامنة في ابتسامات الثكالى
يا نخلتي … لملمي صوتي التائه في السياط … و سرّحي الدود في نبيذهم ...
يا نخلتي يا التي تبذرين الأريج في الأفق
قد أهرق يومهم سوقي … و عقرت خفافيشهم نوقي … و مزّق إلههم المتأبط ذلاّ روحي الثخينة ...
يا نخلتي … يا المنذورة للغد القريب بثّي في لغتهم النخيل …
و نقّي أرضهم أرضي ... من الجماجم ... و القبور ... و الذئاب
****
هكذا أسرّ الغريب لوحدته المعلّقة على باب الغياب ثمّ تقهقر إلى الخلف خطوات محزونة ، ثمّ شيّع البحر المطأطئ ، و بقر بطن رحيله بمستقرّه ، و حضن نخلته ، و استقبل بالشمس الجالسة في خدر غده أرض الأجداث و الأشواك الممتدة نحوه كالليل البهيم . قلّب زورقه الرابض على صمته ذات اليمين و ذات الشمال برهة ، ثمّ تحامل على تردّده و أضرم النار فيه .
الفصل الثاني
الصباح المتيّم بالسواد حزين على عادة الصباحات المشرقية ، و النور يجلس في شرفة الدموع يحتسي قهوته المضمّخة برائحة الموت العتيق ، يرمق بين الفينة و الأخرى من عليائه الواهنة الأرض الشاحبة ، غراب يشيّع جنازة بكارة جفّت منابعها بين يدي خنزير جنوبيّ يتلهّى بانهيارها . الصبح المتيم بالظلام على عادة الصباحات المشرقية يجلس على حافة هوّة سحيقة تربّت بحنوّ على كتف مخالب شمالية احترفت نبش وجه طاعن في النخيل .
الصباح المتيّم بالحيض العفن على عادة الصباحات المشرقية يتتبّع من شرفته الرميم تخبّط بحيرة في الجثث ، و بنت صغيرة لم تبلغ سنّ اليتم تلطم وجهها على مقربة من جثّة أبيها الموغل في الغياب
و الصمت الحزين ، و من فوقها حلّقت الغربان في رقصة جنونية على إيقاع الهمّ التليد .
الموتى جنوب البحر ينامون ملء غفوتهم ، تحرسهم الضفادع المطرّزة بالعمائم توقد على إيقاع النصر حول الجثث الرافلة في اليباب الليل المسيّج بالبرد الزمهرير ، انتشرت رائحة الشواء و الموتى في الرحب ، و سال الدم المقرفة رائحته في المكان و انتشر الذباب و الدود ينخر الخياشيم و العيون
و الصمت العتيد ، احتلّت الرائحة النتنة انف الغريب الممدّد على الأرض ، فمادت به الأرض من تحته فأطلق العنان لسيل القيء بجانب نخلته و متاعه القليل . اجتث متين الأحزان جثته من أودية وجومه
و الدوّار ، وأطلق العنان لرجليه و النسيان تاركا وراء ظهره زورقه مضرّجا في آهاته و الرائحة الكريهة و سار نحو اللامعنى .
****
مشى الغريب مكبّا على شجنه ، بيمينه متاعه ،و بشماله نخلته تلوك صمتها .
سار الغريب بخطى سكرى نحو الجبل الجاثم على أرض الصحراء الممشّطة بالأشواك أحلام موتاها . سار الشريد نحو الجبل بخطوات عليلة، ثكلى ، سار على الدرب الموغل في الجماجم و الدمّوع و الابتسامات الموءودة ، سار على الدرب المتسربل بالصحراء الممتدّة امتداد الهمّ ، و المنبسطة كالخيال المحموم ، و الموحشة كظلمة الجبانة .
لم يأبه الغريب للوهلة الأولى لصدى العويل المتردّد في قاع الرعدة ، و استأنف سيره رغم كل شيء ، و أصرّ على التوغّل نحو الجبل رغم توسّل رفيقته النخلة مرتعدة الفرائص بشماله ، و كلما توغّل في الدرب نحو الجنوب استأسد الديجور ، و أطنبت العفونة في إكرامه ، تقدم الغريب مصعّرا اهتمامه لأنفه المتبرّم ، تحامل على رعبه و توسّل رفيقته الملحاح ، و مدّ درب سيره ليقف على مصدر العويل و النّواح ، إلاّ أنّّّّ صوتا زلزالا أسدل جناحه الشوكيّ على المكان ، و دثّر البحر بالخوف ، و اليابسة دثّرها بالصمت ، كما طوّق الواقف على عتبة الرعب صحبة نخلته بحلّة من الاضطراب . تسمّر التائه في مكانه ، كما ذهب عقله مذاهب شتى ، و انحدرت سكينته إلى أسافل الفوضى المبعثرة . بقي كذلك زمنا غير محدّد يتخبّط في لجج التردّّد كخشبة لقيطة مستسلمة لأحكام الماء الهادر ، ارتفع لهيب الضّجيج القادم من داخل الجبل و من حوله ، و اشتدّ على إثره زئير جارح ، و امتدّت مخالب الموت تنبش الدرب ، تردّد الغريب ، و تلعثمت قدماه ، و استوى الخوف في قلبه واستغلظ ، أشارت عليه صاحبته بالتقهقر و العودة ، لكنه آثر أن يلوذ بقبر غير بعيد منه جاثم على صدر الأرض المنهكة ، افترش الغريب خوفه و الثرى ، و لفّ نخلته بحذر مصطكّ العمد ، وأسرج العمى ليبعث به رسولا للعيون المنتشرة حول القبور المنثورة هنا وهناك .
****
عاصفة الموت أفعى مجنونة ، و جحافل من الدّود خارجة لتوّها من الجبل ملأت الرحب ،و قوافل تنوء ظهورها بخيرات من كلّ الثمرات . ضمّ الغريب نخلته إلى رعبه ، تاركا وراءه عينيه تتّبعان المشهد .
غناء كالنحيب ، و نحيب كالغناء يرافق صوت الطبول ، دود يزحف ، و دموع تذرف ، وحناجر تنشج ، و نيوب تنهش ، حرائر كثيرات يلبسن السواد من الماء إلى الماء، مغلولات حدّ الأذقان بالحديد والنار ، و مشدودات إلى عرش محمول على ظهور الحمير ، محاط بالذئاب و القردة و الكلاب المتأهّبة للفتك .
غلمان ، و فاتنات ، و عمائم ، و شعراء ، و نوق محمّلة بدنان المدام ، و خيام ، و قيان ، ودفوف تنقر، و عبيد ، و عسس مدجّجون باليقظة . لم يفهم الممدّد وراء القبر مرتجفا ما رأته عيناه ، كما انحدر عقل نخلته إلى قيعان سراديب الحلكة ممتطيا صهوة البوار .
رجال كثير يدقون الطبول ، يتقدّمون الموكب ، والموكب يسير بسرعة النمل نحو البحر ، يتقدم في خشوع جارّا وراءه اسودا مغلولين و علامات التعب و السياط تحتلّ ظهورهم ، فركت النخلة عينيها
و من بعدها صاحبها ، ليريا رجالا تلامس لحيّهم بطونهم ، يرتدون عمائم مبعثرة على زركشتها ، ساجدين بين يدي العرش .
ضجّ المكان و ران عليه الصخب ، و تحرّكت الفاتنات في كلّ مكان بين الخيام المنتصبة على الشاطئ ، يطفن من حول الموائد السافرات بالكؤوس و الصحون يوزّعن الأكل على السادة و الابتسامات غير آبهات بدموع المصفّدات في الأغلال . فاتنات عاريات إلا من عرائهنّ مقبلات في تغنّج على العمائم
و العرش ومحتفيات ببطانتهم في غير اقتصاد .
****
أكلوا، وضحكوا ، و رقصوا ، و داعبوا القيان ، وترشّفوا رضاب الأقداح . خمر و رقص ، نحيب و ضحك ، تغنّج و عواء ، نباح و فحيح ، و عمائم مبعثرة في الأرض تحتسي المدام مع تراب الأرض المسكونة بالفجيعة من الأزرق إلى الأزرق ، و الليل المتيّم بالأظافر قد أرخى سدوله مناجيا بحرا
ذلولا يتتبّع حمارا يواقع أقحوانة ، ونيوب رافلة في السكر تنتظر صياح الديكة الآذنة لها بالنهش .
****
استبدّ الصمت للحظة ، وخيّم السكون على الوجوه المسافرة نحو الفجيعة ، و توكأت الأرض المسبيّة على فحش الأفق ، و توسّدت السماء الذبيحة عفن العويل المنبعث من أفواه المغلولات ، تقلّب الغريب في نار فضوله و سعير الغليان ، أمّا نخلته فقد أسلمت أمنها إلى براثن الليل اللقيط تعبث به على مقربة من القبور المرتعدة على أديم القحط الجنوبي القاحل ، ومن حين إلى آخر يرفع الغريب جمجمته المثقلة بأسئلة شوكيّة معربدة ، فيسترق النظر و السمع معا ، و يبعث في الأثناء بعينيه المتيقّظتين رسلا يفتّشون في ثنايا القابعين على صمتهم ينتظرون ، قافلة من الخرفان مسرّحة في شرايين الجبل المطلّ في انكسار على الجاثمين حول المغلولات و الأسود .
أينع الفضول في العيون المنتشرة على الشاطئ تحت مطر من الأسئلة ، ترجّل صاحب العرش السرمديّ ، و مشى بخطى ثابتة نحو المذبح المقدّس ، فشاع في الجوّ التهليل و التكبير و خرّ الحاضرون سجّدا لولي أمرهم ، فتح صاحب العرش كيس الذهب و الفضة و طفق ينثر الأموال و الضحكات المتبرجات هنا و هناك، و من ورائه النمل و الخنازير و القردة و العمائم و الجماجم يلتقطون النعم الجارية من بين أصابع يده الكريمة المبسوطة حدّ الفحش . و بعد تدافع و تنافس في التقاط الخيرات ، و بعد هرج و مرج و تصفيق و تهليل و سجود و تقبيل ، إذ بصوت كبير العمائم ينادي ان فكّوا عن المغلولات أغلالهنّ و قدّموهنّ قربانا للعرش في عيده ، و اهدوا الأسود الصابئة لأقبية النسيان و القبور و السياط .
اضطربت القبور المتلبّسة بالصحراء الثكلى ، و حلّق في السماء المضرّجة في دموعها النحيب و الغربان ، و الشمس الذابلة سقطت مغشيّا عليها قرب الصبح المغلول حدّ الانهيار ، زأر الغضب في شرايين الممدّد بجانب نخلته المضطربة و راء الجدث ، و ارتفعت ألسنة الانتقام في دمه الضاجّ في مرجل القلق ، انتفض الغريب الممدّد على حزنه ، و استأسدت رفيقته في تهدئته ، ترجّته بدموعها الغزار أن يلزم مكانه ، لكنه انتفض من مكانه كمن به مسّ من الجنون ، شدّته رفيقته إليها شدّا و استبسلت في إثنائه لكنه ترك توسلاتها وراء ظهره ، و فكّ بكل ما أوتي من قوة و إصرار من بين يديها بدنه المزبد ، و أطلق العنان لرجليه الملتهبتين غضبا و حقدا لينقذ من براثن السكين المنتصب في يمين كبير العمائم الحرائر المطروحات قرب المذبح المقدّس ، ركض نحو المذبح كحصان مخبول ، و ارتفعت ألسنة توعّده تسابق الريح ، لم تخفه صيحات الفزع ، و لم تثنه براثن الوعيد و النهش ، ركض كأنه لم يركض من ذي قبل ، نحو كبير العمائم المدجّج بالليل و الشوك العنيد و السكين المتوثّب ، و قبل أن يبلغ الغريب مأربه استقبله الرصاص من كل مكان : من الطائرات السابحات في السماء المنطوية على حسرتها ، و من الدبابات الرابضات على الشاطئ . دبّ الضجيج في الجماعة ، و طوّقت العيون و المخالب المكان ، و ذابت النخلة وراء الرمس في خوفها الوحشيّ ، تتابع خلسة تخبّط صاحبها في دمه .
أطلقت النسوة المغلولات الزغاريد ، و اختلط المكان بالرهبة و الحذر و الصياح و النباح و الفرح الدّفين ، و طوّق العسس الجثّة من كلّ مكان ، و انتشرت العيون في مناكب الأرض بين القبور المتراصّة .
ألقت الكلاب بجثة الغريب الممزّقة على باب البحر بعدما قطّعتها عيون الخائفين و الحاقدين. وبعدما أنزل الحرس بها عقابهم ، و لملم الناس في أفئدتهم أشلاءها المتناثرة وأحلامها المبعثرة و استعاد المكان صفاءه ، حينها تقدّم سادة الصحراء نحو العرش المبجّل و ركعوا بين يديه تبجيلا و اعتذرا ، ثمّ توجّهوا جميعا نحو المذبح محروسين بالكلاب و الذئاب و الأفاعي و الضفادع و القردة ليشهدوا عيد النحر السنوي .
رفع كبير العمائم السكين المتأهّب في وجوه المطروحات أرضا ، ثمّ نحرهنّ الواحدة تلو الأخرى ، فانفجرت الحناجر بالزغاريد و النحيب و التهليل و الصياح و البخور و الغثيان ، و سقت فرحا القيان الحاضرين خمرا معتّقة ، و رقص العرش و الغربان ، و سيقت الأسود إلى أقبية النسيان الأبديّ ، ثمّ رفعت على ظهور الدّواب المنحورات على أن يتمّ نحرهنّ مرّات أخرى في أعياد متلاحقة و رفع حملة العرش سيّدهم و من ورائه الخلق جميعا ساروا نحو الجبل من حيث أتوا ، و خلا بذلك المكان إلاّ من النخلة الجالسة في بركة الذعر تواسيها القبور المرتجفة و تغطّيها السماء بكتمانها خوف أن تلقى ما لقيه صاحبها فتسقط من يمين حلمها الشمس الموعودة .
الفصل الثالث
القافلة الناسلة من عمق صحراء التيه تغطّ في رحم عقيم ، و ابتسامة وليد فقدت نضارتها على مشارف خلجات الليل . جثة الغريب الملقاة على حافة الغدر مسجّاة بشدو الذئاب و صهيل الخرفان و من كل همّين اثنين ، و الأشواك المنمّقة بالضياع تهدهد حلما سقيما ، و الدمعة المجروحة شريدة في كفّ النخلة ، و النخلة تتفرّس وجوه دراويش تنوء أكفّهم بنعش مخضّب بالسفح و الأماني الموءودة ، و الشمس المشدودة بحبل إلى جذع حيرة متشامخة تداعب بأناملها الرميم سؤالا يئنّ في قاع شجن ملتفّ الأوهام .
تحلّق الدراويش حول الجثة ، و النخلة ترمقهم من كوّة صمتها الكئيب ، غسّلوا الجثة بكلمات شاحبات ، و طيّبوها بخيالات محمومة ، ثم زفّوها للنعش المطأطئ .
مشت الجنازة مكبّة على حلمها ، مشت نحو الجبل الجاثم على صدر الصحراء ، و تبعتهم عيون النخلة المحتمية بقلق وارف الظلال . مشت الجنازة المشدودة إلى التراب بسلاسل من خوف عتيد ، و تهادت على كفّ اليتم ، حتى الماء غادر يومها مواقعه خوف العسس و الأنياب المعربدة في غضب ، و عانق دم الذبيحات دم المجلّل بالنعش و تراب الأرض الثكلى ، و استأسد الصمت في جوارح القبور المنثورة بين شقوق الحلم المهزوم ، و غصّت شرايين الدروب بالأظافر و الذئاب ، و لاذت الأزهار بالأجنحة المهشّمة على عتبات الضوء العليل ، و اشتعل رأس الجبل المترهّل خرفانا تتبّع الجنازة بعيون ناسلة من عرش الصحراء المتيّم بالفتك . سار الدراويش على الشوك كأنّ النار تحتهم حذرين جيئة و ذهابا خشية السيف المتطاول في البنيان .
غابت الجنازة ، و بقيت النخلة على عتبات النحيب تتقاذفها أمواج اليتم و العدم . نسيم جنائزي يولول بين جنبات الأرض باعثا في الوجود رعدة متوحّشة ، و خوف زئبقي يعبث بقبور مبعثرة غادرت أعشاشها لتحطّ على أغصان الأفول . نزلت ابتسامة النخلة للوادي الشوكي لتغتسل من رجس الهزيع الأخير من الضياء على صياح الدّياجير، و البحر على مقربة منها أجهش صحراء
و من حوله انخرط الوجود في بكاء مديد ، رتقت النخلة بعض شجاعة بالية و أقرّت العزم على اقتفاء أثر الجنازة بعدما حلّ الصمت بالمكان و أينع الأمان
اجتثت النخلة حراكها من قعودها ، و اقتلعت أمنها من خوفها مصعّرة خدّها لقهقهات متبرّجات منبعثات من سفور الليل الأليل ، ووجّهت وجهها شطر الجبل المرصّع بنجوم جنوبية صاعدة نحو الحضيض ، تحاملت النخلة على إعيائها مقتفية آثار الجنازة . مشت بخطى سكرى على وقع الآثار ، سارت بخطاها المترنحة ، وولجت طرقا شتّى ، بحثت عن الجنازة في الشعاب و الجبال
و السجايا و في الأفق الضّنين ، و سألت عن مكانها حبّات التراب و أمواج البحر الذليل ، سألت عن مكان صاحبها البوم و الغربان و الفئران الجارية على حافة الوباء الزلال ، سألت عنها القبور و النجم الهزيل ، بحثت عنها في ترائب القمر المعبّأ بالأنين ، وذات دهشة مقمرة ، و بعد مشقّة وقفت المنهارة على باب جبّانة منتبذة مكانا شرقيا ، و لمّا تقدّمت النخلة نحو العمق خطوات رفعت دمعة عقيرتها بالممات ، و دوّى صوت الفجيعة في السماء متفجّعا ، ووجه الموت وقف
عند رأس النعش متبرّجا ، و سليل الجلدة في شقائه ينعم متفرّجا ، وسراب الأحلام قرب النعش في دمه مضرّجا ، و عويل النفخة انبعث من السور مترجرجا ، وهتف هاتف من وراء الشمس السوداء متوجّعا :
يا زمن الأزمان يا ألمي
و يا ألم الآلام يا زمني
و يا سنم الأدواء يا عمري
و يا حطب الأحلام يا عبثي
و يا عبث الأيام يا أربي
هكذا غنّت طويّة النخلة المتسمّرة على باب الجبانة لسجيّتها ، وهكذا أسرّ شوك الزمان لقدمي التائهة بين القبور . تمشّت النخلة بين الأجداث مفتّشة عن ساكن قلبها ، نادت عليه بأعلى صمتها ، لكن لا صوت يأتيها سوى ترجيع حزنها ، أعادت النداء مرة ومرتين ، فاستقبلها زئير العدم من وراء القبور ، و استوقفها فحيح القدر في قاع اللوعة ، و صهيل التيه يدنو و ينأى .
أعياها البحث ، و أرهقها النداء ، دبّ اليأس في سريرتها . و لمّا أعياها التطواف في مناكب السؤال النحيف جلست إلى قبر لتلملم أنفاسها ، غمست رأسها في السقوط وأجهشت تلوّعا ، لكن لا حياة مع اليأس ، انتفضت من سباتها لتعاود البحث، وضربت في الأرض باحثة عن صاحبها علّها تجده
****
الليل همّ على كتفي الجبانة منسدل ، و برك من الدم القديم مبثوثة على أديم الأرض ، أرض الجبانة على امتدادها غاصة بجثث متفحّمة و أخرى مبتورة الأحلام ، مئات الأطفال المشردين ينامون بين أحضان سمرتهم الموءودة على فوهة الموت المتدلية عناقيده من كوة النار. نقيق الضفادع على حافة الصبح المهزوم يذكي في عروق القبور الجاثمة على آهاتها فحيح الشوك ،
قافلة من الخرفان تجوب عفن السؤال مفتّشة عن نقطة ضوء مضاجعة لخطيئة النهار ، قافلة الخرفان احترفت مع زعيمها مغازلة القمر من ثقب جمجمة نخرة ، فللجماجم حكمتها في تصريف الضوء ، و يبدو الكون أجمل ، و الضوء أبهى حين ترمقه العين الخاوية أسوة بالخرفان من ثقب جثّة عفنة ، الظلمة الشوكية المنحدرة من أعالي شحوب اللغات تربّت على كتفي الخرفان المفتشين غدوا و رواحا عن أشعة القمر المعانقة لنصب السؤال . تحاملت النخلة على طقوس رحيلها ،وتناست فؤادها المخضّب بالوحشة ، و أقرّت العزم على التوغّل في ارض الجبانة بحثا عن صاحبها فربما تظفر به ذات صدفة . مشت بين أكوام الجثث المتفحّمة و الأخرى المتعفّنة ،
و شقّت برك الضوء الآسن برجليها المتعبتين ، سارت بين يدي القبور مترفّقة ، تتفحّص الوجوه المنشقّة على دود كثيف خارج لتوّه من الخياشيم و الجماجم و الأرض الملفوفة بشجون متخمة ، و عاصفة حجرية تمشط عواءها بأظافر عرش قديم يزقزق على فنن أزلي .
تقدّمت النخلة خطوات وجلة و قد ظلّلتها سحابة من الأفاعي المتبرّجة ، تحاملت على رجليها المتورّمتين و خوفها المتنامي ، و توغلت نحو العمق بين كثبان الجماجم و الجوارح المنفوشة
و جيوش الدود و عفن السؤال ، مشت بين صفوف القبور المتشابكة كالأغصان الناسلة من أرض يغطي الملح تفاصيل وجهها المتشقق . اقتربت من القبور الآهلة بالأفواه المختومة
و الشحوب ، و لم تعر مواء المجهول و أنين الصباح المضرّج في عظام نخرة أذنا صاغية ، لم يعقها عن الطواف بعينيها في أرجاء الجبانة نباح الأظافر و زئير الحريق المتردّد في سرائر اليتامى ، أناخت سؤالها رغم كل شيء ، و جثمت على ركبتيها المرتعدتين قرب قبر و شرعت في نبشه بحثا عن رفيقها صنو قلبها و شقيق نفسها ، نبشت بكل ما أوتيت من قوّة ، و أطنبت في النبش ، و بينما هي كذلك إذ ببطن القبر ينشقّ على رافدين ، يجري أحدهما جماجم زلالا ،
و الآخر يجري شوكا رقراقا ، و بين النهرين تنام فاتنة مقطوعة الأوصال تحمل بين يديها رضيعا مجلّلا بالردى ، و قد تحلّق حول ثدي المرأة الجاري حليبا أسود ذئاب كثيرة تنهش تفاصيل بسمة عذراء سمل عينيها نسر ثلجيّ . تسمّرت النخلة ، و توقفت عن النبش تتبّع المشهد بحيرة زانية ، سمّّر مشهد النهرين المذبوحين عينيها في محجريهما ، و دثّرها برعدة وحشية ، و أرسل بين جوانحها الحيرة ريحا صرصرا تذرو رمال السكون على بوابات الفجر المغدور ، سرّحت النخلة لبّها في تفاصيل المشهد فيما أحجمت يداها عن البحث في أعماق السؤال المعلق على باب مدينة العذابات. بقيت النخلة المتجذّرة في حيرتها و خوفها الزئبقي تتقاذفها مواسم القحط الجرداء ، و لولا وخز الشوق لصاحبها لاستسلمت للضياع .
انهمكت في التفتيش مرة أخرى بين ركام الدموع و العواء و الحشرجة ، شمّرت على شوقها
و الفضول ، و امتطت أصابعها بساطا متيّما بلقاء صاحبها المفقود ، اشتعلت يداها نبشا وراحت بحنين الأولين و الآخرين تزيل عن وجه القبر تراب النسيان ، قلّبت المشهد مرّة أخرى
و كأنّها لم تقلّبه من ذي قبل ولما فازت بالخيبة و لم تجد صاحبها أطلقت سبيل القبر، و راحت تطلب ودّ قبر آخر ، نبشت الثاني بعزم أشدّ عزما ، و فتحت باب القبر فهاج الدّود و ماج ، و حطّ على يديها و غمرها ، كما هاجمتها جحافل من العفونة بأنيابها الضارية ، تناست الألم و تحاملت على الرائحة الكريهة وواصلت النبش حتّى لاحت لها جثث آدمية متعفّنة متحلّقة مع جثث لكلاب نخرة حول قطعة خبز مضمّخة بالعار تلتهمها أفواههم المختومة بشراهة زئبقيّة يحرسها سياط متآكل. بحثت الواقفة على باب دهشتها شاخصة التفكير عن رفيقها بعينين جائعتين فربّما نال الجوع منه فتحلّق مع المتحلّقين حول قطعة الخبز ، أجالت بصرها في المتحلقين مثنى و ثلاث فلم تستقبلها إلاّ الخيبة ، أعادت التقّليب كرّة أخرى يمنة و يسرة ومن بين أيديهم و من خلفهم فطلعت عليها جثث أخرى مغلولة بالحديد و النّار تكرع من بحيرة جنوبية مترعة الفحيح ، و بين الفينة و الأخرى ترمق الجثث بعين كسيرة سراب ضياء يرتق النهار بقمم جبال منذورة لجذع حمامة مهيضة الجناح . بقيت النخلة على باب القبر زمنا لم تقدّره تتابع رقصة زهرة موءودة ضلّت سبيلها إلى حلم القابعين في قاع القبر خلف الأنياب تلاحق عيونهم الخاوية من شرفة السفح ثعلبا ثلجيّا يواقع دجاجة سمراء متغنّجة . نفشت القبر بعينيها لعلّها تظفر بصاحبها ، و لكن كلما نفشت جثّة أينعت أخرى . أتعبها النفش و النبش و رغم ذلك أعادت الفعل مرة و مرّتين حتّى وقفت على قحط المحاولة ، و دون عميق تفكير أسلمت القبر إلى الجثث و الدود .
اقتلعت النخلة صحوها من غفوتها ، و لملمت أملها المتخبّط في أحشاء الغيب و انتقلت إلى رمس آخر ، انحنت قرب الجدث الثالث أو الرابع أو المائة أو الألف و راحت تنبشه بنفس الإصرار متكتّمة على إعيائها و غثيانها ، فجأة تجلّت لها جثث ملتفّة حول أسس عرش طاعن في السنّ جذعه ثابت و فرعه في الدم ، الجثث تحاول مجتمعة اقتلاعه من جذوره و العرش ثابت لا يريم ، يغرس الجالس عليه من حين إلى آخر أنيابه في الجثث المتربّصة به ، وبين القلع و النهش تقف النخلة متعبة ، محزونة الفؤاد ، كفكفت النخلة إعياءها، و أطنبت في تتبّع المشهد . الجثث مستأسدة في زحزحة العرش ، و العرش من فوقهم متنمّر يتحيّن فرص النهش من على الجماجم المنثورة على دربه ، بعثت النخلة بعينيها رسولا إلى ما بين العرش و مقتلعيه فربّما غطّت جموع الغاضبين جثّة صاحبها ، تمشّت عيناها فاحصة المقتلع و المقتلعين و لكن دون جدوى و لمّا وقفت النخلة على فشل المحاولة مرّة أخرى جنحت لقبر آخر تنبشه ، و استمرّت ثورة النبش إلى أن أتت على الجبّانة كلّها ، و مع فقدان الأمل في العثور على رفيقها عتقت رقاب القبور و أقرّت العزم على الرحيل بعدما أسرجت دمعتها و نحرت على عتبة الخيبة أملها .
سارت نحو باب الخروج ، و قد ركبت دمعة جريحة سنم خدّها المبحوح ، و أرخت حبل المسير لرجليها الناحبتين و القنوط . مشت بخطى كئيبة لا تلوي على شيء تدفع أمامها خيبتها و السؤال .
مشت مشي التيه لا تعرف أيّ الدروب تسلك و أيّ الطرق تلج ، مشت مشي الأعمى في أرض لا عهد له بها - أو هكذا تزعم - على درب غير قاصد ، سارت على طريق الضياع زمنا طويلا ، و ذات ضياء عليل برز لها من بين شقوق الشجن نعش صاحبها و قد تخيّر له من الأماكن أسفل الجبل .
أطلقت ساقيها للغنم و للفرح ، و اتجهت نحوه بكل ما أوتيت من قوة لا تلوي على شيء ، و لما بلغته جثمت بجانبه على ركبتيها تتفحص الجثمان المسجى ، ولما همّت بتقبيله وضمّه إلى صدرها استحال بين ذراعيها هباء منثورا . لملمته في كفنه على عجل خوف العيون ، و أودعته قلبها قبل أن تحمله على ظهرها . سارت على شاطئ البحر المتتبع للمشهد بصمت . مشت مكبّة على عبرتها باحثة عن مكان حجاب تواري فيه عورتها الجاثمة في كفنها على ظهرها . مشت حائرة الخطوات تدفع بقدميها دفعا عنيفا يكاد السؤال يشجّ رأسها المفتّت . مشت على الشوك كأن الأرق تحتها ، وصاحبها على ظهرها متجذّر في رميمه لا ينبس بحرف ، تخيّرت لها من الطرق أوعرها ، و من المسالك أوحشها خوف العسس و الرقباء ، مشت النخلة المتيمة بالرميم المتوكّئ على صمته مدقّقة الحذر في البر و البحر خوف فتك عيون الليل و أنياب النهار وبينما هي على تلك الحالة إذ بها تظفر بمغارة قرب الشاطئ تحصي الخلاء و تؤنسه فانحدرت نحوها انحدارا جنونيا