إن من البيان لسحراً
أول من لفظ به النبي صلى الله عليه وسلم. أخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن أحمد
الكاغدي، عن أبي بكر عبد الله بن حماد العقدي. عن أبي جعفر أحمد بن الحارث
الخزاز، عن المدائني، عن مسلمة بن محارب، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه؛ أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن الاهتم: أخبرنا عن الزبرقان، فقال: إنه مطاع
في أدنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: يا رسول الله، إنه ليعلم مني
أكثر من ذلك، ولكن حسدني، فقال عمرو: والله يا رسول الله، إنه لزمر المروءة، ضيق
العطن، حديث الغنى، أحمق الوالد، لئيم الخال، وما كذبت في الاولى، ولقد صدقت في
الاخرى؛ رضيت فقلت بأحسن ما علمت، وسخطت فقلت بأسوأ ما علمت. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً"؛ وذلك أول ما سمع.
وأخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن عسل بن ذكوان، قال: قال
أبو عبد الرحمن: أذم البيان أم مدحه؟ فما أبان أحد بشيء. فقال: ذمه؛ لان السحر
تمويه، فقال: إن من البيان ما يموه الباطل حتى يشبهه بالحق. وقال غيره: بل مدحه، لان
البيان من الفهم والذكاء.
قال الشيخ أبو هلال رحمه الله: الصحيح أنه مدحه، وتسميته إياه سحراً إنما هو على جهة التعجب منه؛ لانه لما ذم عمرو الزبرقان ومدحه في حال واحدة، وصدق في مدحه وذمه
فيما ذكر، عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كما يعجب من السحر، فسماه
سحراً من هذا الوجه.
وقد أجمع أهل البلاغة على أن تصوير الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق من
ارفع درجات البلاغة، وقد أحكمنا ذلك في كتاب صنعة الكلام.
وقد روي هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى، ومعه زيادات
توخيت من أجلها تكريره. حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا معمر
بن يحيى النيسابوري، قال: حدثنا سعد الجرمي، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال:
حدثنا أبو جعفر النحوي، عن عبد الله بن ثابت، عن صخر بن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من البيان لسحراً،
وإن من الشعر لحكماً، وإن من العلم جهلا وإن من القول عيالا. قوله: "إن من العلم جهلا"
يعني تكلف العالم القول فيما يجهله. وقوله: "إن من القول عيالا"؛ يعني عرضك الكلام على
من ليس من شأنه. والحكم: الحكمة، كقولك: العذر والعذرة. وقيل: يعني قوله: إن من
البيان لسحراً، أن البليغ يبلغ ببيانه ما يبلغ الساحر بلطافة حيلته في سحره.
وتكلم بعضهم عند عمر بن عبد العزيز بكلام حسن، فقال عمر: هذا السحر الحلال؛
فتصرف الشعراء في هذه اللفظة، فقال بعضهم:
وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجز
شرك القلوب وفتنة ما مثلها للمستهام وعقلة المستوفز
ولا نعرف في الحديث كلاماً أحسن من هذا.
( جمهرة الأمثال ) لأبي هلال العسكري