محمد ممدوح
يعرف المشاهدون مخرج فيلم "2012" الألماني "رونالد إيميرتش" عبر أفلام كثيرة من ضمنها: "يوم الاستقلال" و"يوم بعد غد"، وهي أفلام لمخرج بنى حياته ومسيرته المهنية على أفلام الكوارث الطبيعية والأخطار المحدقة بالأرض. والفيلم الأخير حلقة من سلسلة تخلص لهذه النوعية مع إضافات. يحدثنا الفيلم عن نهاية العالم وتدمير الأرض وسط أجواء مضطربة يعيشها سكان المعمورة على أرض الواقع.
فالعالم لا يزال متأثرا بتداعيات الأزمة العالمية الكبرى، ويعيش خوف وباء إنفلونزا الخنازير، وحروبًا طاحنة، وخوفا من "إرهاب" يقض مضاجع دول كثيرة، وظروف أخرى كثيرة ليست أقل تعقيدا مما سبق، وبذا ليس من المستغرب أن يتفاعل الجمهور مع فيلم يحكي عن نهاية العالم وتدمير الكوكب الذي فسد بفعل فاعل في قناعة كثير من البشر وهم في انتظار النهاية.
يضاف إلى السابق -من أسباب تفاعل الجمهور مع فيلم من هذه النوعية- أن أسطورة نهاية العالم موجودة فعليا عند شعوب المايا التي تذهب إلى أن العالم سينتهي عام 2012، وهي أسطورة صدق عليها المتنبئ الفرنسي الشهير "نوستر أداموس"، وضغطة واحدة على شبكة الإنترنت تجعل المتصفح يصل لتلك المقولات، لتأخذ مغامرة مشاهدة الفيلم بعدا واقعيا مخيفا يزيد من طعم الفيلم في أفواه مشاهديه.
بين الموت والحياة
بداية علينا التذكير أن أفلام الكوارث التي تتنبأ بنهاية العالم تجد كثيرا من التفاعل الإيجابي عند الجماهير، فهي تكشف عن أهم وأعمق خصائص الإنسان الذي يعيش -إن جاز لنا التعبير- في تناقض كبير، تبدو لنا تارة حياة الإنسان هشة، هو كائن ضعيف أمام قوى الطبيعة يرافق ذلك يقين الموت لا محالة، وأن جميع إنجازاتنا الشخصية ومنجزاتنا الحضارية الجمعية مصيرها للفناء، هذه المسيرة الحياتية التي تقع أسيرة للموت كمصير يتساوى نسبة وقوعه مع الحياة نفسها، فتلك الغرفة التي يعيش فيها البشر جميعا وتطل كل نوافذها على الموت لا تمنع الإنسان من الإقبال على الحياة والكفاح لتحقيق أحلامه.
تلك الثنائية يفترض بها أن تدفع بالإنسان إلى أن يتحضر للموت بالتزامه بمبادئ دينه وممارسة عباداته "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" وهي القاعدة التي ربما تجعل من حياة الإنسان تبدو هشة جدا ولكنها في ذات الوقت تكون سره العميق والأجمل على الإطلاق.
هذه الحقيقة تبدو دائما جلية عند التعاطي مع أفلام الكوارث الطبيعية أو نهاية العالم، حيث يتحد شعور المشاهد بمصيره الفردي نفسيا بمصير جمعي يجمع الإنسانية كلها؛ فينظر طويلا إلى الروابط التي تجمع بين البشر على الرغم من اختلافاتهم العقائدية والحضارية والعرقية في مواجهة مصير مؤلم ومشترك لا يفرق بينهم، أو هذا ما يفترض أن يكون!!.. ولندخل لجو الفيلم إذا.
فيضان نوح وسفينته
ومن هذا المنطلق... نحن أمام "همسلي" عالم جيولوجيا يسافر إلى الهند ليلتقي بصديقه "ساتنام" الذي يحدثه عن وقوع عدد من الانفجارات غير مسبوقة في تاريخ البشرية على سطح الشمس، ينتج عن تلك الانفجارات "نيوترونات" تصل الأرض وتعمل كموجات دقيقة تتسبب في صهر نواة الكرة الأرضية.
تلك المقولات كانت تحتاج للدليل ليقوم "سانتام" بإطلاع "همسلي" على بئر للماء في عمق ألفي متر، ليرى الأخير غليان الماء، وهو ما يدفع به للعودة إلى واشنطن لتحذير المسئولين هناك.
يتلقف الرئيس الأمريكي "توماس ويلسن" الفاجعة ليطلع بقية رؤساء الدول على ما توصل إليه العلماء الأمريكيون بعد أشهر من الأبحاث والدراسات من أن العالم الذين نعيش فيه في طريقه للزوال بحلول عام 2012، فيتم الاتفاق بمشاركة أكثر من أربعين دولة على مشروع سري تبني فيه الصين أحواضا عملاقة مغلقة أشبه بالغواصات في منطقة التبت لحفظ البشر من الطوفان المتوقع حدوثه.
على الجانب الآخر وفى أحد الفنادق نرى أحد المسئولين الأمريكيين يخبر أميرًا عربيًّا على ما سيحلُّ بالعالم عارضا عليه حجز مقاعد في أحد السفن العملاقة مقابل مليار يورو، وهو ما يقبل به.
مع اقتراب الموعد تأخذ درجات الحرارة في باطن الأرض بالارتفاع بشكل سريع، وتبدأ نواة الكرة الأرضية في الاهتزاز وعدم الاستقرار لتتم عمليات إجلاء السكان في الولايات المتحدة إلى مخادعهم. وفي اليوم المحدد تحدث التشققات الرهيبة في سطح الكرة الأرضية، لنشاهد مدنًا تنشق الأرض وتبتلعها، ومدنًا أخرى تختفي في مياه المحيطات، وأمواجًا عاتية وحرائق وزلازل رهيبة لا حد لعنفها.
لتبدو الصورة في النهاية وكأن طوفان "نوح" انتهى لكن الحياة على الأرض تستمر في أحواض "سفن نوح" التي تنجح في إنقاذ الجنس البشري من الانقراض.
المنقذ الأمريكي
داخل تلك الأجواء الملحمية لا يتجاهل صناع الفيلم خطًا إنسانيا وحيدا، هو ذاته النموذج النمطي للبطل الأمريكي الذي يكتشف في نفسه القدرة على إنقاذ العالم وفعل المستحيل، على الرغم من حياة هذا البطل العادية بل إن شئت يمكن وصفها بالفاشلة تماما في جو فيلم احتشد بالأخطاء الدرامية والسذاجة الفنية التي تصل إلى حد المبالغة في أحسن وصف لها.
فنحن مع هذا المنقذ أمام كاتب روايات خيال علمي فاشل، منفصل عن زوجته وابنته، يعمل سائقا لملياردير روسي سيفعل المستحيل لإنقاذ عائلته والعالم من الخطر المحدّق بهم ومن الموت الحتمي.
سيتغلب ذات البطل/ الكاتب/ السائق على كل العواقب والكوارث المحيطة به ليبقى على قيد الحياة، مضحيا في سبيل إنقاذ الجميع، كيف حدث ذلك؟ إليك الأمر إذن.
نرى في آخر الفيلم موجة مد عملاقة تضرب سفينة تعجز محركاتها عن العمل فتمتد يد البطل الأمريكي المختار لإنقاذ المتواجدين على متن السفينة فتمسك بالسلك وتسحبه وتنقذ البشر والسفينة من الغرق والاصطدام بقمّة إفرست.
يخرج الجميع سالمين وينتهي الفيلم بصورة الأرض ووحدها القارة الإفريقية باقية على سطح الماء.
كيف ركب العرب؟
السؤال حتما هنا هو: أين العرب والمسلمون من كل ذلك؟ الفيلم في هذه الجزئية أثار عددًا من القضايا الهامة على مستوى ما يقدمه من مشاهد أو أفكار أو حتى تلميحات، أو على مستوى الشكل الذي تفاعلت مجموعات معينة من المشاهدين مع هذه المشاهد أو التلميحات.
في واحد من مشاهد الفيلم يتساوى برج بوذا في التبت مع الأرض، وفى آخر تهدم كنسية سان بطرسبرج في الفاتيكان ليسقط البابا صريعا، وفى آخر يهدم تمثال المسيح الشهير في البرازيل، يحدث ذلك دون عرض لأي تدمير لأي من الرموز أو المناطق الإسلامية المقدسة، وهو ما دفع بعض رجال الدين المسيحيين إلى اتهام الفيلم بمعاداة المسيحية، كما أثار عدم عرض أي تحطيم للمعالم الإسلامية كثيرا من التساؤلات في وسائل الإعلام الأمريكية.
أجاب المخرج على ذلك بأنه فكر فعلا في ذلك وكان يرغب في تصوير مشهد هدم الكعبة وتدميرها لكن مساعد كاتب السيناريو "هارولد كراسلر" قال له: "ليس من أجل فيلم تقدم رأسك للمذبحة"، مستشهدا بمقتل المخرج "فان جوخ" الذي قتل في الثاني من شهر نوفمبر 2004 في الدنمارك بسبب فيلمه الذي عرض محجبة تظهر عارية وعلى ظهرها نقش وشم على يحمل آيات قرآنية.
أضاف المخرج الألماني في هذا الصدد: "لقد قتل المخرج من أجل فيلم مدته عشر دقائق، أما أنا فغير مستعد لأن أقتل من أجل فيلمي".
في الحقيقة إن هذه نظرة متطرفة وهذا تصريح لمخرج أبقى على مشهد عابر ووحيد لمجموعة من المصلين حول الكعبة يصلون بعد معرفة خبر نهاية العالم، إنما يحمل وجهة نظر واضحة ومباشرة مفادها استبعاد ونفى للمسلمين تحت دعوى "التطرف أو الإرهاب".
لا أقصد هنا رغبتي أن يعرض المخرج لهذا التدمير للكعبة مثلا، ولكن استثناء المسلمين من حدث عالمي فيه رسالة واضحة لا تحمل الشك مهما كانت حجج حجبها.
نجاة بدفتر الشيكات
هذه النظرة المتطرفة التي لا تخلو من عنصرية يكرسها الفيلم عبر صورة العربي التي قدمها، ففي أحد المشاهد الثلاثة اليتيمة نرى مشهدا أثناء تحميل السفينة الأمريكية وقبل اصطدام موجات المد العملاقة بالسفينة تندهش ابنة الرئيس الأمريكي السمراء عندما ترى أشخاصًا يدخلون السفينة بسهولة بينما يتدافع غالبية الناس في الخارج، فتسأل كبير موظفي البيت الأبيض: "كيف اخترتم كل هؤلاء الناس؟"
يرد عليها: "بنفس الطريقة التي اخترنا فيها النتاجات الفنية، طلبنا من علماء الوراثة تأسيس صندوق وراثي للحفاظ على الأنواع يتم من خلاله إعادة إنتاج الأجناس بعد الطوفان".
يكتمل المشهد بالعالم الأمريكي همسلي يشير بإصبعه باستغراب واستعلاء قائلا: "هؤلاء تم اختيارهم من قبل علماء الوراثة". فيظهر على الشاشة أمير عربي مع زوجاته المحجبات.
تعلق ابنة الرئيس: "يبدو لي انه تم اختيارهم حسب دفتر شيكاتهم".
يجيب الموظف: "هذا صحيح تماما.. دون ملياراتهم لما كنا تمكنا من فعل ذلك".
إذن ركب العرب سفينة نوح الأمريكية بأموالهم فقط، وهو ركوب لا يستحقونه كما يرى صانع الفيلم، فلم تكن لهم أي مساهمة في مشروع إنقاذ البشرية اللهم إلا مدخل دفع المليارات التي دفعت ليس كمشاركة في مشروع إنقاذ البشرية بل لتأمين حياتهم وحياة حريمهم، وهم الخارجون توا من كتاب ألف ليلة وليلة أو فيلم علاء الدين الكارتوني.
في حين يقوم الأوربيون واليابانيون تحت قيادة أمريكا ببناء سفن لإنقاذ البشرية، يبنيها عمال صينيون على أرض صينية، ودور العرب هو التسلل إلى السفينة.
يكتمل مشهد النفي والاستبعاد وتوضع نقطة الخاتمة في الإفادة التي تحمل نفس المعنيين، غير أن الموضوعية تتطلب أن يطرح هنا سؤال مهما وهو: ماذا نقدم نحن العرب مثلا للعالم؟ ما هي إسهاماتنا الحضارية والعلمية والثقافية، الآن تحديدا دون الاتكاء على الماضي البعيد أو القريب؟
لكن ذلك طبعا لا يبرر ما قدمه الفيلم من رؤية حتى في لحظات كنهاية عالمنا الافتراضية.
فسيفساء المؤثرات
الفيلم الذي ضج بفسيفساء بصرية من مؤثرات بصرية وخدع مصنوعة بالكمبيوتر عبر تقنيات قطعت أشواطا كبيرة مقتربة بشكل كبير من الواقعي منذ فيلم المخرج السابق "يوم بعد غد" 2004.
لكن وسط الزخم من الخدع والحيل والإبهار والإدهاش تاهت الأبعاد الإنسانية، ورسمت الشخصيات بكثير من التسطيح والنمطية دون أبعاد حقيقة، فجاء الخط الدرامي الأساسي للبطل نمطيا جدا ومخلصا لتقاليد هذه النوعية من الأفلام الأمريكية.
بدا أن المخرج لم يعتن كثيرا بالجانب الإنساني أو البعد الدرامي للفيلم مقابل تقديمه لمجموعه من المشاهد غير المسبوقة في واقعية ما تعرضه من مشاهد الخراب الذي يحل بالأرض.
."